الأربعاء، 30 ديسمبر 2009

الصهيونية ومخطط سرقة فلسطين

بعد اغتيال قيصر روسيا عام 1881م انتشرت دعوة الهجرة بين الجمعيات و الحركات اليهودية و دفعهم دفعاً إلى ذلك اضطهادات و حملات عرفت باسم البوجروم , و اندفع اليهود إلى الهجرة و تدريب المستوطنين على الزراعة التى اعتبروها العامل المؤسس الأول للوطن , و لذلك عملوا أولاً على إقامة مدرسة زراعية بفلسطين من التبرعات حيث توفر الدعم المالى لحركة التهجير من البارون الفرنسى أدموند دى روتشيلد الذى وظف حتى موته عام 1934م حوالى 150 مليون فرانك ذهبى للاستيطان .
و يطلق اسم اليشوف على الجماعات التى استوطنت فلسطين قبل عام 1882م لأغراض دينية , و كانت تعيش على الصدقات التى تقدمها الأقليات اليهودية فى العالم و لم تكن لها مطامع سياسية و لكن هذه المطامع تواجدت مع الهجرات بعد عام 1881 م حيث جعلت إقامة دولة يهودية هدفاً لها كجماعة قومية .
و كانت أول مستعمرة صهيونية فى فلسطين أقيمت على جبل الكرمل المشرف على حيفا عام 1868 م , و فى عام 1878م خرجت جماعة من يهود القدس المتدينين لحرث الأرض فأسسوا أول جماعة يهودية زراعية فى بلدة ملبس العربية التى صارت فيما بعد بتاح تكفا (عتبة الأمل ) بتمويل من روتشيلد , و فى عام 1882م نزل ثلاثة عشر رجلاً و أمرأة واحدة من سفينة بميناء حيفا يمثلون طلائع حركة أحباء صهيون (البيلو) و أسسوا مستعمرة زراعية قرب عيون قارة جنوبى يافا و عرفت باسم ريشون لوسيون (الأول فى صهيون ) .
و تعتبر الفترة من 1887م إلى 1897م هى فترة تجسيد القومية اليهودية لدفع حركة الاستيطان و ظهور هرتزيل الذى فصل فى الجزء الثانى من كتابه ( الدولة اليهودية ) تفاصيل مشروعه لقيام إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات, و نشطت فى كل أوربا الدعوة للهجرة إلى فلسطين و خاصة لعمال الزراعة والصناعة لتقوم بهما قاعدة الإعاشة و الحركة الاقتصادية التى تشجع على جذب المزيد من موجات الهجرة , و اتخذوا شعاراً للاستيطان يعبر عن الاهتمام بالزراعة و حراستها يتمثل فى (السيف و المحراث ) .

وأسفر مؤتمر بازل عام 1897م الذى جاء فى نهاية هذه الفترة عن عقيدة سياسية صهيونية لها عقيدة سياسية و قومية و استعمارية , و يعتبر هذا المؤتمر مرحلة الإعداد الفعلى لإنشاء دولة يهودية .
وكانت الهجرة الثانية حاسمة فى تاريخ الاستيطان , و قد أتوا من روسيا فى الفترة من 1904م إلى 1914م بعد أحداث كيثنيف عام 1903م فبدلاً من النضال فى الوطن فروا و حملوا إرث الثورة المهزومة والنفسيات المريضة إلى فلسطين ليبشروا بالاشتراكية الصهيونية , فهم صهاينة اشتراكيين هدفهم خلق طبقة عاملة عبرية تكون ركيزة لشعب عامل مسيطر على العمل و الحراسة والدفاع فابتدعوا فكرة الكيبوتس عام 1906م , و أسسوا الأحزاب العمالية ووضعوا أسس الاستيطان العامل , و أسسوا اللغة العبرية و الأدب العبرى الحديث .
وأقاموا مشروعاتهم و مزارعهم التعاونية عن طريق طرد المزارعين الفلسطينيين لخلق اقتصاد يعتمد على نشاط و طبقة عاملة يهودية , و كان روبين و جرانوفسكى يريا أن الإبعاد المنظم للفلسطينيين و إن لم يكن كاملاً هو شرط لابد منه لتحقيق المشروع الصهيونى , و بدأوا بالاستعمار العملى لفلسطين بشراء الأرض و تحويلها من مقفرة إلى آهلة , فقد آثروا شراء الأرض البور غير المزروعة فبنوا فيها مساكن و أنشأوا مزارع و اجتذبوا التجارة , و قد حرم مفتى القدس بيع الأراضى لليهود , و هكذا تم الانتقال من الاستعمار التقليدى المستغل للأيدى الرخيصة من السكان الأصليين إلى الاستيطان البشرى بتدفق المهاجرين و توفير أراضى لهم دون مزاحمة من أحد .
ومن المفاهيم التى تأسست فى تلك الفترة مفهوم العمل العبرى و هو من أهم مفاهيم الصهيونية العمالية و يتجسد فى ثلاث أفكار :
1- اقتحام الأرض : بالاستيلاء على أرض فلسطين و استغلالها بإقامة المستوطنات اليهودية فيها .
2- اقتحام العمل : باعتباره أحد وسائل الرجوع إلى عالم الطهارة والحواس و الطبيعة و إنقاذ اليهود من التشوهات التى تلحق بهم نتيجة وجودهم فى مجتمع الأغيار .
3- اقتحام الإنتاج : بمقاطعة البضائع و المتاجر العربية و شراء المنتج اليهودى فقط .
و فى عام 1908م تأسست الوكالة اليهودية فى يافا لتنشيط الاستيطان , وفى عام 1909م تم بناء تل أبيب بأموال البترول القادمة من آل روتشيلد.
و أثناء الحرب العالمية الولى اشترك اليهود فى القتال بجانب الحلفاء لاكتساب الخبرة القتالية و لتكوين نواة للجيش اليهودى فى فلسطين , و قدم العلماء اليهود مساعدتهم لبريطانيا فى الحرب و تقديم خدماتهم لصناعة الغازات السامة لمحاربة الألمان , و اقنعوا أمريكا بدخول الحرب إلى جانب الحلفاء , وكان وعد بلفور جزء من المقابل , و دعا جابوتنسكى إلى تشكيل وحدة من المتطوعين اليهود للقتال فى صفوف القوات البريطانية , و شكل الكتيبة اليهودية المعروفة باسم سائقى البغال , و وصلت عام 1918م و رفعوا الراية الصهيونية ذات النجمة السداسية و فقرة مزمورية ( إن نسيتك يا أورشليم تنسى يمينى ) .
و فى 2/11/1917م صدر وعد بلفور إلى اللورد روتشيلد ممثل لجنة الرياسة التابعة للمنظمة الصهيونية .
كانت إنجلترا قد وعدت الشريف حسين أن تعترف باستقلال البلاد العربية مقابل قيامه ضد الأتراك , و ثارت المدن الفلسطينية لوعد بلفور و قرروا عام 1919م فى يافا الانضمام إلى سوريا , و فى عام 1920م حدثت اضطرابات بين العرب و اليهود و فرضت على ضوئها الأحكام العرفية و المحاكم العسكرية .
وفى الحقيقة كان النمط البلفورى يرى أن تتخلص أوربا من يهودها عن طريق ترتيب وطن لها خارجها أى ضربهم فى الداخل وحمايتهم فى الخارج .
وهكذا جاء وعد بلفور فى سياق عملية السيطرة الاستعمارية الأوربية على المنطقة إذ كانت اتفاقية سايكس بيكو صهيونية فى أصلها من بعض النواحى مما يؤكد الترابط بين المشروع الصهيونى لاغتصاب فلسطين و المشروعات الرامية إلى تكريس علاقات التبعية و الهيمنة الاستعمارية فى المنطقة استناداً إلى ركائز أساسية ( إسرائيل – التجزئة – التهميش الاقتصادى – اغتصاب فلسطين – قيام إسرائيل 48 ) و هذا تأكيد على ترابط ركيزتى السيطرة الغربية ( إسرائيل – التجزئة ) فواقع التجزئة هو المناخ الأمثل لحماية إسرائيل وترسيخ وجودها.
يعد وعد بلفور الشكل الجديد الذى يحدد العلاقة بين الجماعات اليهودية والحضارة الغربية حيث عرضت الزعامة الصهيونية تهجير فائض أوربا من اليهود إلى فلسطين تخلصاً منهم و لتأسيس قاعدة للاستعمار الغربى على أن يقوم الغرب بحمايتهم فى المقابل , و قد قبل الغرب هذه الزاوية حيث يقوم اليهود بتصريف أمورهم الدينية و الإدارية و السياسية المحلية فى المستوطن الصهيونى باستغلال كامل على أن يتحرك و الجميع فى إطار المصالح الإمبريالية الغربية و هذا الوضع لا يختلف فى أساسياته عن وضع الجماعات اليهودية داخل إطار الإمبراطوريات القديمة, و لذا تم القضاء على المعارضة اليهودية للصهيونية أو كبح جماحها , و استولت الصهيونية على الجماهير اليهودية من خلال الضغط من جهة الدولة الإمبريالية الراعية .
و فى 10/12/1917م يقتحم السير إدمون ألنبى مدينة القدس على رأس الجيش البريطانى , و دخلها من باب الخليل و قال :" الآن انتهت الحروب الصليبية " , و مما يدعوا للعجب أن تحارب أوربا كلها من أجل فلسطين فى الحروب الصليبية و عندما تدخلها بريطانيا تتركها من تلقاء نفسها لليهود , كيف لها أن تفعل ذلك إلا إذا كانت تعلم أنها لن تفقدها إلا شكلاً فقط لأن شكل الاستعمار سيتغير .
وقد استصدرت بريطانيا من الأمير فيصل فى العراق موافقة رسمية على وعد بلفور , و تنشب حركة شعبية ثورية فى مصر و فلسطين و تتزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين .
و كانت الموجة الثالثة من موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين بين عامى 1919م و 1924م و كانت من الطليعيين الذين طبقوا مبادئ العلمانية , وكانوا مناهضين للدين أكثر من هرتزيل , فقد أغلقوا الباب على التدين اليهودى الذى اعتبروه خانقاً و كان زمامه فى أيدى رجال الدين الرجعيين فأباحوا الزواج المختلط و نادوا بفصل الدين عن الدولة , و رأوا الدين مسألة شخصية و التوراة وثيقة تاريخية تدل على أنهم أمة قديمة فى فلسطين .
و كان الصهاينة الشباب يريدون فقط السماح لهم بالعمل فى فلسطين مع جيرانهم العرب من أجل فلسطين و المستقبل و استمرت لفترة الجيرة الحسنة بين قرية يهودية و أخرى عربية , و استمرت هذه المرحلة العضوية حتى أوائل الثلاثينيات مع بداية عصر هتلر , فتحولت الهجرة العضوية الانتقائية إلى هجرة جماعية , و تعلم اليهود من هتلر أن مسار التاريخ القوة و ليس العقل , و دفع هتلر بجموع اليهود إلى الذهاب إلى فلسطين لا بالنخب التى جاءت لمواصلة حياتها و الإعداد للمستقبل .
تحولت فلسطين إلى محمية بريطانية فى مؤتمر سان ريمون 25/4/1920م وفرضت بريطانيا انتدابها على فلسطين واختارت اليهودى البريطانى هربرت صمويل (أليعازر بن مناحم ) كأول مندوب سامى بريطانى فى فلسطين دلالة على النوايا البريطانية فقد كان عضواً قيادياً فى النخبة اليهودية البريطانية .
وكان أول سياسى بريطانى يحاول إقناع زملائه فى حكومة إسكويث (1906-1916م) بفكرة دولة يهودية فى فلسطين , و كان ثانى يهودى بعد دزرائلى يصل لهذا المنصب السامى فى الحكومة البريطانية , و عقب وصوله عام 1920م تصور نفسه منقذاً للشعب اليهودى إذ يقول :" للمرة الأولى منذ هدم الهيكل استطاع المستوطنون أن يروا واحداً من بنى جلدتهم حاكماً فى أرض إسرائيل ".
وخاطبه المنافقون من حوله بـ( أمير إسرائيل ), وعمل على إرساء دعائم دولة يهودية مكتملة (و ليس وطن قومى ) من خلال التدابير التى اتخذها فى المجالات السياسية والاقتصادية و الإدارية , وكان فى نظر العرب إدارة صهيونية تنكرت فى هيئة بريطانية , حيث حظر على العرب حمل السلاح بينما زود المستعمرات اليهودية بالسلاح و جعل اللغة العبرية مع العربية والإنجليزية لغات رسمية , و فتح باب الهجرة لليهود و سمح لهم بشراء الأرض .
اعتاد السير صمويل الحديث عن المملكة اليهودية مستخدماً عادة تعبير استعادة المملكة اليهودية و مما له دلالة أن السكان المحليين كانوا يشيرون إليه باعتباره ملك اليهود .
و صرحت بريطانيا فى دستور 1922م أن فلسطين وطن قومى لليهود ,
و فى 24/7/1922م فرضت عصبة الأمم الانتداب البريطانى على فلسطين ,
و بسبب المقاومة هاجر من فلسطين عام 1925م عدد من اليهود .
و عام 1927م كان عدد الخارجين أكثر من الوافدين , و لكن الفلسطينيين لم يحافظوا على مبادئ المفتى بمنع بيع الأراضى لليهود .
كانت سياسة الانتداب البريطانى و إصرار الصهاينة على شعارات التربة اليهودية و العمل العبرى أهم أسباب المعارضة العربية للصهيونية مع نهاية العشرينيات , و سعى الصهاينة للتوصل إلى اتفاق مع القادة العرب خارج فلسطين , و رأى فيكتور جاكويسون أن فوائد التعاون بين العرب و الصهيونية تفوق بكثير أهمية فلسطين للحركة القومية العربية , و لكن أحداث العشرينيات و الثلاثينيات خيبت آمال الصهاينة فى إنجاح الاتصالات .
وحاول قادة الصهاينة التوفيق بين مواقف الجماعات الصهيونية المتطرفة وبين مطالب عدم انتهاك حقوق السكان غير اليهود , و برغم أن المصالح الطبقية العامة للعمال العرب و اليهود ظلت فكرة سائدة للصهيونية العمالية فى أوساط منظمة بوعالى تسيون و هابوعيل هاتسعير خلال العشرينيات , فقد ظلّ الهستدروت بقيادة بن جوريون مقصوراً على اليهود فظهر ولاؤه الكاذب للاشتراكية , و قوبلت فكرة وجود قومية فلسطينية مستقلة بالإنكار التام , وظهرت فكرة أن التنمية الاقتصادية لفلسطين كنتيجة للاستعمار الصهيونى يمكن أن تعوض العرب الفلسطينيين عن إحباط طموحاتهم القومية .
و الحقيقة أن فلسطين لم تكن أرضاً مقفرة كما كانوا يقولون , ففى عام 1937م كان إنتاج فلسطين من البرتقال الشتوى 15 مليون صندوق .
و قبل عام 1926م كانت الحركة الصهيونية تميل إلى تفسير المقاومة العربية باعتبارها صراعاً دائراً بين ملاك الأراضى الإقطاعيين و العرب , وأكدت الأحداث الدامية عام 1929م أن تحديث فلسطين مسمى صهيونى لم يؤت ثماره المأمولة فى تحييد الطموحات العربية القومية للفلسطينيين, و أرجع بن جوريون سبب الاضطرابات إلى الوعى القومى الفلسطينى الواضح .
و فى 15/ 8/ 1925م قامت ثورة البراق حيث عاود اليهود السيطرة على ساحة الحرم الشريف بالقرب من ساحة حائط المبكى , و جاءت لجنة البراق الإنجليزية التى قررت أنه للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط , و فى عام 1929م قامت ثورة عارمة فى القدس و نابلس و يافا و الخليل ضد الوطن القومى لليهود و ضد الحكومة , و قتل عدد من اليهود و المسلمين و المسيحيين و تدمير 6 مستعمرات يهودية , و صدرت أحكام إعدام ضد العرب , و أرسلت عصبة الأمم لجنة دولية أصدرت قرارها فى مارس عام 1930م و نصت على:
1- الفتنة نتيجة المخاوف العربية من إخضاعهم و إخراجهم من بلادهم .
2- الخوف سيكون سبباً فى اضطرابات أخرى .
3- قدوم عدد من المهاجرين أكثر مما تستطيع البلاد أن تستوعبه .
4- يتوق اليهود إلى إيجاد دولة يهودية فى فلسطين .
5- التدابير التى اتخذتها حكومة فلسطين لحماية حقوق المزارعين العرب لم
تكن بالغاية المطلوبة
6- منحت بريطانيا العراق و الأردن الحكم الذاتى و حرمت فلسطين منه بسبب
وعد بلفور
و يعتقد العرب أن وجود اليهود حجرة عثرة فى سبيل تحقيق أمانيهم القومية.
و فى بداية الثلاثينيات كان الشعار الذى صاغته الصهيونية ( لانحكُم و لا نُحكَم فى أرتس يسرائيل ) إشارة إلى مبدأ التكافؤ و المساواة حيث فهموا المساواة بوصفها وسيلة لغاية محددة هى تأمين النشاط العملى فى فلسطين بهدف تحقيق أغلبية يهودية فى المدى البعيد , و وافقوا على مجلس تشريعى يقوم على أساس التكافؤ و المساواة و العرب شركاء متساوون .
و بعد صعود هتلر و تزايد سيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين حيث ارتفعت نسبة اليهود إلى جملة السكان فى فلسطين من 17% عام 1931م إلى 33% عام 1940م , و بدأ تحقيق أغلبية يهودية من خلال الهجرة محتملاً و واقعياً , وشجعهم عدم قبول العرب بصيغة التكافؤ التى أدركوا أنها تفسح المجال لتسلل المطالب الصهيونية المتطرفة من الباب الخلفى .
و بين عامى 1936 م و 1939م قامت ثورة فلسطينية عارمة ضد المستعمرات الصهيونية و أجهزة الاستعمار البريطانى فى محاولة لقطع الطريق على تهويد بلاده و إقامة قاعدة إمبريالية فى دولة صهيونية ضد الأمة العربية و التى لم يكن الوعى الشعبى فيها قد بلغ درجة وضوح الرؤية للتخطيط الإمبريالى البترولى الصهيونى , فى حين نشط التحالف الإمبريالى الصهيونى مع الرجعية العربية الحاكمة لتمهيد الأجواء لتنفيذ المخطط ,و اعتقد اليهود بأنهم إذا جاءوا إلى فلسطين استسلم أهلها و عاشوا فى جيتو مشابه لما عاشوه فى أوربا .
و بلغ عدد المهاجرين 61,540 عام 1935م و كان عدد الموظفين اليهود فى الحكومة أكبر من العرب (3) .
و بينت انتفاضة ( 1936 – 1939م ) للمنظمات الصهيونية و لقادة اليشوف أن أىّ اتفاق مع الفلسطينيين هو ضرب من الأوهام فى ظل الظروف الراهنة , و تخلى بن جوريون عن فكرة التكافؤ و تحول اتجاه النشاط الصهيونى عندئذ إلى السعى لحماية المغامرة الصهيونية فى مواجهة المقاومة العربية المتصاعدة مع رسوخ الحكم النازى فى ألمانيا و الوضع المحفوف بالمخاطر للتجمعات اليهودية فى أوربا , عندئذ نوقش مشروع نقل السكان للمرة الأولى فى الوكالة اليهودية , كان قبل الحرب العالمية الأولى مجرد اقتراح لإسرائيل زانجويل و ليوبتزكين و أرثر روبين لحل مشكلة الفلاحين المرحلين عن طريق إعادة توطينهم فى البلدان العربية و خطر تواجدهم فى الدولة اليهودية , و اقترحت الوكالة اليهودية الاستفادة من شرق الأردن فى نقل الفلسطينيين بشكل طوعى , و حاول بن جوريون إقناع الأمير عبدالله سراً واللجنة الملكية البريطانية .
وكانت هذه اللجنة الملكية قد جائت لدراسة أسباب انتفاضة العرب و قدمت تقريرها الذى أرجع الانتفاضة إلى رغبة العرب فى الاستقلال و مخاوفهم من إقامة الوطن القومى اليهودى و استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين , و انتقد التقرير سياسة الانتداب و أوصى بإنهائها و تقسيم فلسطين , و وافق معظم زعماء الوكالة اليهودية على التقسيم و رفضه العرب والمتطرفون اليهود , ومنذ عام 1937م بدأت بريطانيا تتجه إلى المناداة بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية و أخرى عربية و منطقة خاضعة لبريطانيا و ذلك لضمان اعتماد كلاً من العرب و اليهود عليها و حتى تمسك زمام الموقف بيدها .
و كان 300 ألف عربى مسلم و نصرانى فى الدولة اليهودية التى أقرتها لجنة 1937م البريطانية
و بعد رفض العرب للتقسيم وصل الصهاينة إلى استنتاج أن تأسيس دولة يهودية مستقلة هو مقدمة منطقية لأى تعايش مع العرب داخل فلسطين و خارجها , وأصبح نقل قطاعات من السكان العرب على الأقل شرطاً ملحاً لقبول صيغة التقسيم , و كان اليهود فى أرض التقسيم 294،000 يهودياً و كان العرب 225,000 عربياً , و لم ينفذ مشروع التقسيم أثناء الحرب العالمية الثانية,
واعتقدت جماعات اليشوف أن الحرب خلقت فرصاً جديدة للتعاون العربى
اليهودى و حين هدد هتلر مصر من الغرب قامت سلطات الاحتلال بترحيل أعداد كبيرة من اليهود إلى فلسطين لحمايتهم من انتقام هتلر عام 1942م , و كانت حركة النازى و أحداث أوربا خلال الحرب العالمية الثانية قد أعطت دفعاً ذاتياً للحركة الصهيونية و حركت اليهود تجاه فلسطين , و نشط اليهود الأمريكيون فى تلك الأثناء و استطاعوا عقد مؤتمر فى مدينة بلتيمور الأمريكية عام 1942م حصلوا فيه على حماية الولايات المتحدة و خرج منه أول إعلان رسمى للأهداف الصهيونية ليطالب بإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين بأسرها دون ذكر لمسألة العرب الفلسطينيين , و طرحت اللجنة التنفيذية الصهيونية المفاهيم التى كانت سائدة فى العشرينات و من بينها الوعد بمنح الأقليات العربية كافة الحقوق المدنية و رفع مستوى معيشتها و منحها إدارة ذاتية رفيعة .
و فى عام 1945م أصدرت لجنة العمل الصهيونية الداخلية قراراً ينص على أن العرب فى الدولة اليهودية المزمع إقامتها سوف يتمتعون بحقوق متساوية فى الميادين السياسية و العامة و الدينية و القومية , و اعترض الصهاينة التصحيحيون على ذلك لأنه يعنى قيام دولة ثنائية القومية , و بحلول عام 1947 م كانت كل الفرق الصهيونية تتفق على أن التعايش مع الفلسطينيين و الدول العربية المجاورة لن يكون ممكناً إلا من موقع القوة و أن الدولة ستستمر فى كونها صهيونية بغرض تجميع المنفيين
كان هدف الصهيونية كحركة سياسية عنصرية هو إقامة دولة يهودية فى فلسطين , و لم تستطع أن تمنع نفسها من أن تحلم بحكم العالم منها و هو لا يتعارض مع فكرة اليهود عن أنفسهم و عن العالم أو الأغيار الجوبيم , و بعد الحرب العالمية الثانية كانت الأجواء مهيأة لتحقيق هذا الحلم , و لم يسمح الصهاينة للفرصة أن تمر هباء ً , فبمجرد أن انسحبت بريطانيا من الميدان .
و تحولت القضية إلى الأمم المتحدة فى نيويورك فى 2/4/1947م وفق خطة
مدبرة لتنفيذ مشروع التقسيم الذى وضعت أسسه قبل بضع سنين , و قررت الهيئة العامة انتداب لجنة خاصة عهد إليها بمهمة التحقيق , و توصلت اللجنة إلى مشروعين :
الأول : أقرته الأقلية و يقضى بتأليف دولة اتحادية .
الثانى : أقرته الأكثرية و يقضى بتقسيم فلسطين .
و بذل الصهاينة و من ورائهم أمريكا قصارى جهودهم و مغرياتهم لاستمالة بعض المندوبين الذين عارضوا مشروع التقسيم داخل المم المتحدة حتى صدر القرار يوم 29/11/1947م , و نص قرار التقسيم على إنهاء الانتداب البريطانى فى وقت لا يتأخر عن اليوم الأول من أغسطس عام 1948م و تأسيس دولتين مستقلتين ؛ عربية و يهودية , و تنشأ فى القدس إدارة دولية خاصة .
و كان عدد سكان فلسطين وقت صدور قرار التقسيم 1,685,000 منهم 1,120,000 عربى و الباقى يهود , و كان على 407,000 عربى أن يعيشوا تحت حكم الدولة اليهودية إذا نفذ القرار , و كان على 10,000 يهودى أن يعيشوا تحت حكم الدولة العربية إذا نفذ القرار .
و كانت مساحة أراضى الدولة اليهودية 15,261,649 دونماً بنسبة 56,47% , و كانت مساحة أراضى الدولة العربية 11,589,870 دونماً بنسبة 42,88% , و كانت مساحة القدس الدولية 175,504 دونماً بنسبة 0,65% من أرض فلسطين .
و قبل انسحاب جيش الانتداب البريطانى من فلسطين هاجم الصهاينة عدداً من القرى و المدن العربية الداخلة فى الدولة العربية المقترحة مثل مدن يافا وعكا و طبرية و صفد , و مع انسحاب الجيش البريطانى فى 15 /5 / 1948م لم تتوان القوات الصهيونية عن توسيع رقعتها باحتلال أرض مخصصة للدولة العربية بعد دخول الجيوش العربية و خاصة فى منطقة النقب , و عملت على تثبيت أقدامها فى المناطق العربية , ففى 29/5/1948م دعا مجلس الأمن إلى هدنة أربعة أسابيع , و استغل الصهاينة الهدنة للحصول على الطائرات الحربية و المدفعية و السيارات المصفحة الثقيلة , و أعاد اليهود فتح طريق القدس وسيطروا على السهل الساحلى و الجليل الأعلى و اللد و الرملة و جزء كبير من وسط فلسطين .

و بعد 10 أيام أصدر مجلس الأمن أوامره بوقف القتال و بدأت الهدنة الثانية يوم 18/7/1948م , و استمرت القوات اليهودية فى نشاطها العسكرى واستولت على بئر السبع يوم 21/10/1948م ثم بيت حانون و منطقة الخليل وأرغموا المصريين على الانسحاب من النقب , و وافقت الأطراف على وقف إطلاق النار يوم 22/10/1948م , و هاجم الصهاينة الأراضى اللبنانية واحتلوا 15 قرية لبنانية , و فى نوفمبر تحركوا تجاه خليج العقبة و فى ديسمبر احتلوا العوجة و بلغوا سيناء و تم توقيع اتفاق الهدنة الذى خرقه الصهاينة يوم 10/2/1949م باحتلال مخفر أم الرشراش التى سميت إيلات فيما بعد .
و فى عام 1949م فرضت الولايات المتحدة على الأمم المتحدة قبول عضوية إسرائيل وفقاً لثلاثة شروط هى :
1 - عدم المساس بوضع القدس .
2 – السماح بعودة العرب الفلسطينيين إلى أراضيهم .
3 – احترام الحدود التى عينها قرار التقسيم .
و كان قرار التقسيم قد صدر فى 29/11/1947م حيث كان اليهود 32% من السكان و لهم 5,6% من الأراضى فأصبحوا يمتلكون 56% من أجود الأراضى , و اعتبر اليهود كل من غادروا ديارهم قبل 1/8/1948م فى عداد الغائبين و تم مصادرة ثلثى الأراضى التى كان يملكها العرب و هى تقدر بـ70 ألف هكتار من بين 110 ألف هكتار .
و برغم أن نشاط الصهيونية الاستعمارى من طبيعته تصدير التناقض إلى العرب فإنه بفضل نضال عرب فلسطين لم تستطع هذه المؤسسات إلا الحصول على 12% من الأراضى المسجلة باسم العرب قبل حرب 1948م
و يجب ملاحظة صلة الحروب العالمية بزرع هذا الكيان , فالحرب العالمية الأولى أنجبت وعد بلفور , و الحرب العالمية الثانية أنتجت أركان الدولة التى لم يبق لها سوى الإعلان الذى تم فى عام 1948م .
يمكن التواصل وتبادل الآراء على alraia11@yahoo.com
_________________________________
(1) د. سحر الهنيدى مجلة العربى العدد 548
(2) د . رشاد الشامى إشكالية الهوية اليهودية
(3) روجيه جارودى الأساطير المؤسسة
(4) محمد هشام الفلسطينيون عبر الخط الأخضر
(5) د.عبد الوهاب المسيرى الصهيونية و العنف
(6) رينارد فايمر الفلسطينيون عبر الخط الأخضر
(7) د . عبد الجليل شلبى اليهود و اليهودية
(8) روجيه جارودى الأساطير المؤسسة
(9) لطفى الخولى مستقبل الصراع العربى الإسرائيلى
(10) طاهر شاش التطرف اليهودى
(11) خالد محمد غازى القدس سيرة مدينة
(12) د . عبد الوهاب المسيرى الجماعات الوظيفية
(14) ماجد الكيّالى المشروع الشرق أوسطى
(15) إبراهيم سعد الدين العرب و إسرائيل

السبت، 26 ديسمبر 2009

فرنسا واليهود

كانت الطائفة اليهودية فى فرنسا من جماعتين منفصلتين السفارديم و الأشكيناز , فالسفارديم جاءوا إلى البلاد بعد طردهم من أسبانيا خلال القرن الخامس عشر و بلغ عددهم حوالى 3500 و سكنوا المناطق الغربية من الحدود الأسبانية فى مقاطعة بردو جنوب غرب فرنسا , و عملوا فى التجارة الخارجية و تمكنوا من تكوين طائفة حرفية تجارية فجمعوا المال إلى جانب الثقافة التى أتوا بها من الأندلس مما جعلهم مقبولين بشكل عام كجزء من المجتمع البرجوازى الفرنسى .
وكانت فرنسا قد خلت من اليهود تقريباً حتى القرن السادس عشر عندما جاء المارانو للاستيطان فى مقاطعتى بوردو و بايون و كان عددهم بضعة آلاف عملوا بالتجارة الدولية و و الأعمال المالية المتقدمة , وامتلكوا سفناً و رءرس أموال ضخمة كان اندماجهم سريع بسبب صغر حجمهم و لأنهم كانوا ذوى خبرة بالشئون المالية المتقدمة , و لهجتهم غير البعيدة عن الفرنسية و لا أزياؤهم و لا عاداتهم الثقافية , و جاء الأشكيناز من شرق أوربا و بلغ عددهم 30,000 و سكنوا شرق فرنسا , و كان معظمهم داخل فرنسا متسللاً من دون تصريح و يتكلمون اليديش و لا يتبعون السلوك الفرنسى و يعيشون فى جماعات مغلقة تخضع لتعليمات صارمة من الأحبار و معظمهم يتعامل فى تجارة المواشى و أعمال الربا مما جعلهم مكروهين من فقراء الفلاحين , و منذ عام 1552م بدأت الصبغة الإثنية و الثقافية لليهود فى التغير إذ ضمت فرنسا مدينة متز و الإلزاس عام 1648م و اللورين عام 1733م مما أدى إلى زيادة عدد اليهود الأشكيناز المتخلفين المنعزلين عن الحضارة وعددهم 20 ألفاً تم وضعهم تحت الحماية الملكية طرحت قضية إصلاح اليهود و تطبيعهم أعلنت أكاديمية متز عن مسابقة لدراسة سبل علاج اليهود عام 1785 م و تم تشكيل لجنة لإصلاح يهود الإلزاس منهم قيادات السفارديم الذين حظروا تدريس التلمود فى مدارسهم منذ عام 1760م واستطاعوا الحصول على حق السكنى فى أى مكان بفرنسا و حق إقامة الشعائر كاملة عام 1790م , و كان الزواج المختلط بين الأشكيناز و السفارديم محظوراً , و أصبح الأشكيناز فى الإلزاس و اللورين وغيرها من المناطق محور مناقشة بسبب تميزهم الوظيفى و الثقافى, و طرح .
العقلانيون الفرنسيون الخط الاندماجى الذى يرى أن المشكلة ليست كامنة فى طبيعنهم و إنما من وضعهم الشاذ و من إنكار حقوقهم السياسية و المدنية , و أن الحل يكمن فى تحديثهم و إعتاقهم و تخليهم عن خصوصيتهم اللغوية والثقافية والإثنية فى الحياة العامة, ومنذ عام 1770 أصبحت المشكلة اليهودية موضوع اهتمام رجال الفكر فى فرنسا والتى عاصرت فترة مهاجمة الاعتقادات الكنسية , وأصبح اليهود متهمين بأن كتبهم وسلوكهم تقوم على أساس من التعصب الدينى ولكنهم كانوا محل عطف بسبب اضطهاد محاكم التفتيش لهم , وحتى الأشكيناز الذين استوطنوا فرنسا فى القرن التاسع عشر من بولندا كانوا يتحدثون اليديشية ويشتغلون بالربا والرهونات مختلفين عن الفرنسيين فى الرداء والعادات والثقافة , لذا كان دمجهم صعباً ومعقداً.
وقد ذهب فولتير إلى أن لليهود طبيعة متعصبة خاصة بهم متأصلة فى شخصيتهم و لا يمكن تغييرها , وقال آخرون أن سبب النواقص فى سلوك اليهود يرجع إلى طريقة المعاملة السيئة التى يلاقونها فى المجتمع الذى تركهم فى عزلة اجتماعية تحت رحمة رؤسائهم الذين يفرضون عليهم تقاليدهم العتيقة , أما إذا حصلوا على حقوق المساواة الاجتماعية وقبلهم المجتمع كمواطنين فإن سلوكهم سوف يتحسن تلقائياً وهذا ما فعلته الثورة الفرنسية .
وكان عدد اليهود عند نشوب الثورة قليلاً حيث بلغ قرابة 40 ألفاً منهم من 20إلى 25 ألفاً فى الإلزاس و 350 فى متز و4000 فى اللورين وجميعهم أشكيناز ماعدا 2300 سفاردى فى بوردو و1000 فى بايون و2500 فى المقاطعات البابوية ( يهود أفنيون) و حوالى 500 فى باريس و نسبة اليهود فى فرنسا من مجموع السكان وقت الثورة 5,% , وكان السفارد جزءاً عضوياً من المجتمع الفرنسى يتحدثون الفرنسية أواللادينو ويعملون بالتجارة والصناعة , أما الأشكيناز فى الإلزاس واللورين كانوا محط احتقار السفارد ومنعهم السفارد عن الاستقرار فى بوردو وكانوا محط كراهية من الجماهير المسيحية , ونوقشت وقتئذ المسألة اليهودية الأشكينازية عشية الثورة و عزف أعداء اليهود على نغمة الخطر اليهودى وأشاروا إلى أن اليهود جسم متماسك غريب منبوذ لابد من التخلص منه .
وطبقاً لشعارات الثورة فقد سادت بين المواطنين دون اعتبار لمعتقداتهم الدينية ولم يحصل اليهود على حقوق المساواة مباشرة , فقد تم تفسير إعلان حقوق الإنسان فى البداية على أنه لا ينطبق على اليهود , وفى أوائل العام التالى للثورة وافقت الجمعية الوطنية على منح اليهود السفارديم حق المساواة واستمر النظر إلى الأشكيناز على أنهم غرباء , ولكن الجمعية الوطنية فى أواخر عام 1791م قررت منح الأشكيناز حق المواطنة حتى تكون الثورة قد حررت الجميع .
منحت الثورة اليهود حقوق المواطنين , وحاولت دمجهم فى المجتمع عن طريق المدارس وتشجيعهم على التخلى عن تميزهم الوظيفى , وحاول الأشكيناز الإبقاء على عزلتهم , ومما زاد المشكلة تفاقماً أن الفلاحين الذين اشتروا أراضى كبار الملاك التى صادرتها الثورة اقترضوا الأموال اللازمة من المرابين اليهود الذى وصل عددهم بين ثلاثة إلى أربعة آلاف مرابى , وعجزوا عن سداد الدين وهو ما يجعل اليهود محط السخط الشعبى بين عامى ( 1802-1805م ) , ومن هنا طرحت المسألة اليهودية نفسها على نابليون الذى احتك باليهود فى بولندا فأوقف كل الديون .
نابليون و اليهود
هيأت الثورة الفرنسية ظروفاً أفضل لليهود بإلغاء القوانين المقيدة لحريتهم فى فرنسا سنة 1791م , وزاد نشاطهم فى المطالبة بإنشاء وطن قومى لهم بفلسطين وخاصة أن موجة الاضطهادات التى كان الشعب الفرنسى ينزلها بهم قبل الثورة قد خفت حدتها أو انعدمت , ففى عام 1798م اقترح بعض اليهود الفرنسيين على حكومة فرنسا إسكان اليهود فى فلسطين وفى الوجه البحرى من مصر .
ومع الثورة حاول اليهود أن يندمجوا مع البيئة الجديدة التى أوجدتها الثورة واستطاع نابليون أن يستغل بمهارة هذه الطموحات فى محاولة لتذويب الشخصية الإسرائيلية داخل المجتمع الجديد , وأن يخضعهم لنظام الدولة , وبدءاً من هذه الفترة أصبح الحاخامات أعواناً للسلطة .
أخذ نابليون يجند فى جيشه أثناء الحملة الفرنسية على مصر عدداً من اليهود من آسيا و أفريقيا عام 1799م , و وجه نداءً إلى يهود العالم يدعوهم إلى الانضواء تحت لوائه لكى يعيد إليهم مجدهم الضائع و يرد إليهم حقوقهم المسلوبة منذ آلاف السنين و إحياء تراثهم العبرى و إقامة دولتهم فى فلسطين , و دعا نابليون عام 1806م وجهاء اليهود و سألهم اثنى عشر سؤالاً عن موقف اليهود من بعض قضايا المجتمع و الاقتصاد و الدين المتعلقة بعلاقتهم بوطنهم وهل يعتبرون أنفسهم أجانب أم فرنسيين, و طبق نابليون قوانين إصلاح اليهود على الأشكيناز وحدهم دون السفارديم , و لكى يذيب اليهودى الفرنسى فى الوطن الأم أنشأ نابليون معابد يهودية جديدة لمحاربة الخزعبلات القديمة و لكنهم أصروا على الفصل بين الرجال و النساء فى الصلاة , و فى عام 1807م حاول نابليون إحياء مجمع السنهدرين ( المكون من سبعين حاخاماً إسرائيلياً و انتهى بتدمير الهيكل عام 70م ) حتى يجمع شمل اليهود تحت لواء بونابرت , و هى المرة الأولى التى ينعقد فيها منذ هدم الرومان الهيكل وهو مجلس يمثل كل يهود العالم , و أعلن المجمع ولاءه الكامل للإمبراطور وبطلان أية جوانب فى التراث اليهودى تتناقض مع ما يتطلبه واجب المواطنة , و على أثر اجتماع السنهدرين اليهودى فى باريس أعلن المجمع الأرثوذكسى (السينورد ) استهجانه لمحاولة نابليون توحيد اليهود الذين شتتهم الغضب الإلهى فى العالم بأسره و المنادة بمسيح مزيف فى شخص نابليون حيث دعاهم إلى العودة لفلسطين ليصبحوا أسيادها الحقيقيين .
وفى عام 1808م أصدر نابليون مرسومين :
الأول : إقامة نظام المجالس الكنسية من الحاخامات و الرجال العاديين للإشراف على الشئون اليهودية من رعاية معابد إلى تنفيذ قوانين التجنيد وتشجيع اليهود على تغيير المهن التى يشتغلون بها .


الثانى : الاعتراف باليهودية ديناً .
وأصبح الحاخامات مندوبين للدولة مهمتهم تعليم أعضاء الجماعة اليهودية تعاليم دينهم و تلقينهم الولاء للدولة , و أن الخدمة العسكرية و اجب مقدس .
وأصبح لليهود كيان رسمى داخل الدولة فحصلوا على حقوقهم , و منحوا شرف الجندية و لم يعد يسمح لهم بدفع بدل نقدى , و شجعوا على الاشتغال بالزراعة , و حرم نابليون على اليهود الأشكيناز الاشتغال بالتجارة دون الحصول على رخصة تجدد بعد التأكد من مدى إحساس التاجر اليهودى بالمسئولية الخلقية , وتشير الأدبيات اليهودية إلى هذه القرارات بـ ( القرار المشين ) و لم يطبق كل هذا على السفارديم .
ونجح فى دمجهم بالمجتمع الفرنسى و بحلول عام 1811م كانت أعداد كبيرة منهم تعمل بتجارة الجملة و الحرف و تم تطبيعهم إلى حد كبير .
وهدف نابليون إلى دمجهم داخلياً و لكنه تبنى سياسة مغايرة تماماً فى إطار سياسته الإمبريالية إذ دعاهم للعودة إلى فلسطين لإحياء تراثهم العبرى القديم مستخدماً ديباجات صهيونية تؤكد أن اليهود ليسوا أقلية دينية تندمج فى أوطانها و إنما شعب عضوى يجب أن يرحل إلى فلسطين فهو كان يقصد تصفية اليهود بوصفهم جماعة وظيفية تجارية داخل فرنسا ثم توظيفهم كجماعة استيطانية قتالية خارجها .

محاولة لفهم فكر نابليون تجاه اليهود
ارتكز نابليون على فكر سياسى و فكر دينى فى تعامله مع اليهود , وتواكب فكره مع أحداث الداخل الفرنسى الثورى الصاعد المحرر لليهود من جهة وصراع الداخل اليهودى من جهة أخرى , و بهذا اختلط الفكر السياسى بالدينى لدى نابليون , فقد لاحظ أن اليهود بدأوا يتحكمون فى فرنسا فهو يقول : [ يجب أت تتم البحوث عن البهود لا باعتبارهم جماعة دينية فحسب بل كوحدة قومية , إنهم جردوا الكثير من القرويين من الأموال و الأملاك , إنهم كأسراب غربان هى نزير شؤم حقيقى ].
فقصد من دعوتهم إلى العودة إلى فلسطين إلى إبعادهم عن فرنسا بعد أن لمس تحكمهم فى كل مرافقها , و لكنه إبعاد فى إطار السياسة الإمبريالية الهادفة إلى تصفية اليهود كجماعة وظيفية تجارية داخل فرنسا و توظيفهم كجماعة .
استيطانية قتالية خارجها , و يقول عمانوئيل الثالث ملك إيطاليا السابق : [ كان نابليون يريد بدعوته لليهود للعودة إلى فلسطين أن يجعل اليهود المشتتين فى جميع أنحاء العالم عملاء له] .
فعندما حاول نابليون أن يذيب الشخصية اليهودية داخل الشخصية الفرنسية اصطدم بالاتجاهات الأصولية التى كانت فى مواجهة مع تيارات الحداثة فى الجماعات اليهودية (منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر و هى الفترة التى شهدت خروج اليهود من الجيتو و تمتعهم بالمساواة مع المواطنين , ذلك الخروج الذى كانت تنظر الأصولية له على أنه كارثة تهدد بفقدانه الهوية اليهودية .
وكانت غلبة الاتجاه الأصولى هى الدافعة لفكرة التخلص من اليهود فى فرنسا بنقلهم إلى فلسطين خلال حملته على مصر و الشام تحت مسمى استرداد المجد الضائع و الحقوق المسلوبة , و بهذا أراد علاج الفكرة السياسية بالفكرة الدينية و بهذا تتطابق أفكار نابليون فى نقل اليهود مع الأفكار الصهيونية , واذلك كان اليهود المتشددون فى فرنسا ألد أعداء الصهيونية .
وعاد نابليون و فكر فى توظيف اليهود ليعملوا جواسيس لحسابه , و جند بعض اليهود للتجسس لحسابه إبان غزوه لروسيا , و لكن أغلبية اليهود تجسسوا عليه لحساب الحكومة القيصرية لأن المؤسسة الدينية كانت تعتبره عدوها الأكبر .

علاقة اليهود بقيام الثورة
يرى البعض أن الثورة الفرنسية لم تجر على حسب المطالب القومية للشعب الفرنسى بل جرت على حسب المصالح القومية لليهود , و ارتكب اليهود الذين كانوا يهتفون فى أثناء الثورة بالحرية و الإخاء و المساواة جرائم تحت ستار شعار الثورة ضد الفرنسيات البريئات و رجال الدين بل ضد الكنائس أيضاً وكلفت الشعب الفرنسى مليون قتيل تقريباً .
فاليهود خدعوا فيليب دورليان دوق أورليان الطامع فى العرش واستغلوه فى شراء جميع غلات القمح الفرنسى ثم تصديرها إلى إنجلترا ثم استوردتها فرنسا.
طبقاً لتعليمات اليهود على أثر شكاوى الأهالى , و بعد ذلك انطلقت أول شرارة للثورة لا بسبب المنطق و تنظيم الوطن و إنما بسبب البطون الجائعة .
وهناك من يرى إسهام اليهود الكبير فى حركة التنوير التى أنتجت الثورة الفرنسية , و تصحيحاً للأوضاع ظهر فى فرنسا عام 1886م الفارس جيو جينودى موسسو الذى قاوم الإرهاب الكابالى اليهودى و أشار إلى أن الإسلام ليس هو عدو المسيحية بل عدوها اللدود هـم اليهـود , و وضـع كتاب سماه
( اليهـودى و المذهب اليهـودى و تهويــد الشعوب المسيحية ).

صراع الداخل بين يهود فرنسا
على أثر الثورة الفرنسية ألغيت القوانين المقيدة لحرية اليهود فى أغلب دول أوربا فى السنوات التالية للثورة و انتشرت مبادئ الثورة فى باقى الدول الأوربية و هددت بالقضاء التام على عزلة اليهود و تحويل اليهودية إلى مجرد ديانة , فالثورة الفرنسية حررت الأفراد من سلطة الطوائف , و أصبح جميع المواطنين بمن فيهم اليهود يخضعون لقانون واحد و محكمة واحدة , و أصبح من حق المواطنين الانتقال إلى أى مكان للمعيشة و القيام بأى عمل يرغبون فيه , و انتخب أول نائب يهودى فى البرلمان عام 1834م , و منح يهود الجزائر الجنسية الفرنسية عام 1870م , و تم تحويلهم إلى مادة استيطانية , و ارتبط مصير اليهود بفرنسا بدرجة اندماج عالية .
وبينما رحب الأفراد بهذه التغيرات فى حياتهم اعتبرها الأحبار خطرة على الكيان اليهودى لأنها قضت على سلطتهم فى التحكم فى سلوك أفراد اليهود فانهارت فكرة العزلة . و مع انتشار مبادئ الثورة الفرنسية انهارت الطوائف اليهودية و أصبح اليهود مواطنين فى التجمعات الجديدة , و خشى زعماء الطوائف من ذوبان اليهودى داخل مجتمعه , وهنا بدأت فى روسيا القيصرية ( آخر المعاقل المقاومة للثورة الفرنسية) حركة يهودية باسم حبات صهيون تقاوم الذوبان وسط الأمم, وترفع شعار العزلة على أساس سياسى .
وهذا التطور الحادث داخل اليهود لا يرجع للثورة فقط و إنما هو بصورة أشمل ناتج من نواتج عصر التنوير فى الفكر و الأوربى الذى اعتمد على العلم هادفاً .
إلى التحرر من السيطرة المتمثلة فى الكنيسة و الحكومة و الطوائف . و استمر الصراع الصامت بين الأرثوذكس المحافظين و المجددين اليهود داخل فرنسا حتى منتصف القرن التاسع عشر , و استمرت اليهودية الفرنسية فى التطور وتحسن الأوضاع الاجتماعية للمواطنين اليهود , و قبلوا كأعضاء فى مجلس الدولة و أكاديمية الطب و الجيش و عينوا قناصل فى النمسا و تركيا , و ظل للتيار المحافظ مؤيدون تمركزوا فى الإلزاس و مع الزمن خفت الصورة المتدنية , و فى الحرب العالمية الأولى انضموا لصفوف المقاومة ضد الألمان ودعمت هذه المشاركة الوضع الاجتماعى لليهود فى فرنسا .
يمكن التواصل على alraia11@yahoo.com
___________________________
المراجع التى يمكن الرجوع إليها فى الموضوع
1- جواد رفعت آتلخان الإسلام و بنو إسرائيل
2- د.عبد الغنى عبود اليهود و اليهودية و الإسلام
3- طاهر شاش التطرف الإسرائيلى
4- د.عبد الوهاب المسيرى الجماعات الوظيفية
5- إبراهيم سعد الدين العرب و إسرائيل
6- إيمانويا هايمان مجلة العربى العدد 505
7- أحمد عثمان تاريخ اليهود

مصر والجزائر وورقة التوت

وسقطت ورقة التوت الأخيرة التى كانت تغطى عورات العلاقات بين الشعوب العربية , فأصبحت مكشوفة للجميع , ولكن هل سألنا أنفسنا من الفاعل ؟ من الذى سمم بعثة الفريق القومى المصرى فى الجزائر , ومن الذى دفع جمهور الجزائر يحتشد خارج فندق البعثة ويطلق آلات تنبيه السيارات طوال الليل ؟ ومن الذى شحن المصريين ليرموا أتوبيس اللاعبين الجزائريين بالحجارة فى القاهرة ؟ ومن الذى أطلق كذبة أن هناك قتلى جزائريين فى القاهرة ؟ ومن الذى حرض شعب الجزائر على الاعتداء على الأفراد وممتلكات الجالية المصرية فى الجزائر ؟ من الذى أهان العلم المصرى بكل الأشكال والطرق فى الجزائر؟ ومن الذى حرض على اعتداء جماهير الجزائر على جماهير مصر فى السودان ؟
إنه الإعلام غير المسئول , لقد بالغ الجزائريون فى حادثة إلقاء الحجارة على أتوبيس اللاعبين فى القاهرة , وبالغوا فى التعدى على المصريين سواء فى الجزائر أو السودان , كما بالغ المصريون فى تصوير حادثة السودان ربما للتغطية على الفشل فى الفوز بالمبارة , أو لتقصير البعض فى توفير الحماية , ولا ننكر أن علاقات مصر والجزائر الرياضية غير جيدة ومشحونة دائما , ونعلم أن الجزائريين يسيئون معاملة المصريين فى المباريات دائما , والمصريون يتحملون, ولا يريدون إحداث الأزمات , ولكن ما الجديد ؟ الجديد أن الجزائر جاءت مصر بسيناريو معد مسبقا , وأن مصر وقعت فى الفخ الذى نصب لها بدهاء , رغم تغاضيها عن واقعة التسمم , وإزعاج اللاعبين , والإساءة إلى الجمهور المصرى فى الجزائر , وأيضا الجديد والأخطر أن هذه المقابلة تغطيها قنوات فضائية مصرية كثيرة , وهذه الفضائيات يقدم برامجها رياضيون قدامى وليس إعلاميين , فالإعلامى مسئول ومدرب ويستطيع التحكم فى انفعالاته , بينما الرياضى حماسى مندفع دائم المخاطرة , فعبر الرياضيون المصريون عن انفعالاتهم وعما كان يحدث لهم كلما ذهبوا إلى الجزائر عندما كانوا لاعبين , فانفعلوا بل انفجروا , وشحنوا الشارع المصرى بانفعالهم , وردت الصحافة الجزائرية على هذه الانفعالات بلا مسئولية أيضا , وردت الفضائيات المصرية على ردود الجزائريين , وأصبحت هناك اتهامات متبادلة من الذى بدأ الهجوم والإساءة , لقد اعتقد الطرفان أن هذه المواجهة هى نهاية المطاف وكأنهما لن يتلاقيا بعد ذلك فأتى بكل جهده , وأسقط كل الاعتبارات والثوابت فى العلاقات بين الشعوب , وحزموا حقائب سفر بلا عودة , فباعوا الغد باليوم , بئس البيع وبئس الشراء , ودخلت شبكة الانترنت طرفا فى الموضوع , والعجيب أن ترى الإعلام سواء كان مرئى أم مقروء تراه ينقل رأى فرد على موقع على الانترنت كأنه فى غاية التوثيق والمصداقية , وعندما أصبح كل فرد عادى يمكنه أن ينشر رأيه , فأصبح رأى أى مواطن عادى فى أحد البلدين - حتى ولو كان جاهلا – على موقع ما أصبح هو رأى البلد كاملا عندما تنقله الفضائيات والصحف , ما هذه الفوضى ؟ هل أصبح رأى مواطن جزائرى واحد أن شعب مصر يهود هو رأى كل الشعب الجزائرى ؟ وهل أصبح رأى مواطن مصر واحد أن شعب الجزائر ليس عربى هو رأى كل شعب مصر ؟ ألا يعتبر وجود الاتهامات باليهودية وعدم العروبة مثير للشك والريبة ؟ وهل اللاعبون الجزائريون مقتنعون أن المصريين يقرأون التوراة فى صلاتهم كما قالوا للاعبين المصريين فى السودان ؟ وهل الإعلام المصرى مقتنع بيهودية بعض أفراد الاتحاد الجزائرى كما قالوا؟ لقد اختلط الحابل بالنابل , وأصبح ميزاننا فى شمالنا , وأقحمنا السياسة فى الأمر فاتهم الجزائريون مصر بأنها حاربت مع إسرائيل ضد حماس فى غزة , مذا يريدون ؟ أيريدون القطيعة الكاملة بين بلدين حاربا يوما ما معا , وناضلا يوما ما معا ضد الاستعمار ؟ ألا يعلم الجزائريون أن أنفاق غزة لها طرفان أحدهما فى غزة والآخر فى مصر, ونقل البضائع يتم من مصر إلى غزة , ومصر لاعتبارات كثيرة تغمض عينها عن ذلك فى صمت ؟ وأن مصر هى التى تدير مفاوضات إعادة الشمل بين الفرقاء الفلسطينيين ؟ وأن مصر تدعم القضية الفلسطينية بكل قوة ولكن دون ضجة إعلامية أو متاجرة بالقضية ؟ وأخيرا هل نسى الجزائريون حروب مصر ضد إسرائيل من أجل فلسطين ؟
وأنا أسأل الجزائر لماذا تكرهون مصر ؟ أبسبب المنافسة الرياضية , أم بسبب سياسات تعتقدونها خطأ , أم تنافس على سبق ريادى فى المنطقة؟ ولماذا تخلطون الأوراق ؟
ويبدوا أن الحكومة المصرية كانت عاقلة ومتفهمة فآثرت الصمت وعدم التصعيد لأنها لا تريد أن تفقد بلدا عربيا شقيقا بسبب مباراة كرة قدم , وهذا ما نتمناه من وزير خارجية الجزائر الذى يطالب بالقصاص, القصاص من من ؟ ولماذا ؟ لا أدرى , وربما سندخل فى تحكيم دولى ليحدد من بدأ حتى تسوء الصورة أكثر مما هى عليه . ولكن فى النهاية لا يسعنى إلا أن أقول عاشت مصر , عاشت الجزائر .

الخميس، 24 ديسمبر 2009

نشأة الشيعة

حرص الشيعة فى تناولهم للتشيع على نسب التشيع لعصر الرسول صلى الله عليه وسلم , وذلك كمحاولة دفاعية ضمنية لنفى كونه ظاهرة مستحدثة فى الإسلام , ولجعله متجذراً فى التاريخ الإسلامى , ويسير سيرة موازية للإسلام , بل أحياناً يصورون التيار العام للإسلام على أنه منسلخ من التشيع حين تخطى الصحابة تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم , والتى كانت فيما يعتقدون تدفع الأمة نحو التشيع لسيدنا لعلى رضى الله عنه وذريته .
وفى البداية نستعراض نظرية أصل الشيعة كما وضحها الشيخ الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء وهو معروف باعتداله , وتقاربه من أهل السنة , يقول فى كتابه عقائد الشيعة المسمى أصل الشيعة وأصولها: " إن أول من وضع بذرة التشيع فى حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلامية , يعنى أنّ بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبا إلى جنب " .
واستدل على ذلك بالعديد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: " لأن عدداً ليس بالقليل اختصوا فى حياة النبى بعلى ولازموه وجعلوه إماماً كمبلغ عن الرسول وشارح ومفسر لتعاليمه وأسرار حكمه وأحكامه وصاروا يعرفون بأنهم شيعة علىّ " .
ويقول عن الشيعة : " يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علماً للناس من بعده , وكان النبى يعلم أنّ ذلك سوف يثقل على الناس وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره , ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم وإلى اليوم ليسوا فى مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبى وعصمته عن الهوى والغرض , ولكن الله سبحانه لم يعذره فى ذلك فأوحى إليه " يا أيها النبى بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " المائدة آية 67 , فلم يجد بداً من الامتثال فخطب الناس عند غدير خم .
ولكن كبار الصحابة بعد النبى صلى الله عليه وسلم تأولوا تلك النصوص نظراً منهم لصالح الإسلام حسب اجتهادهم فقدموا وأخروا وقالوا الأمر يحدث بعد الأمر , وامتنع علىّ وجماعة من عظماء المسلمين عن البيعة أولاً , ثم رأى امتناعه من الموافقة والمسالمة ضرر كبير على الإسلام , فتابع وبايع حيث رأى أنّ بذلك مصلحة الإسلام وهو على منصبه الإلهى من الإمامة وإن سلم لغيره التصرف والرئاسة العامة فإن ذلك المقام مما يمتنع التنازل عنه بحال من الأحوال ".
وعن الفترة التى تلت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كاشف الغطاء: " حين رأى (علىّ) أنّ الخليفة الأول والثانى بذلا أقصى الجهد فى نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثروا ولم يستبدوا بايع وسالم وأغضى عما يراه له حقاً , محافظة على الإسلام أن تصدع وحدته وتتفرق كلمته ويعود الناس إلى جاهليتهم الأولى , وبقى شيعته منضوين تحت جناحه ومستنيرين بمصباحه , ولم يكن للشيعة والتشيع يومئذ مجال للظهور , لأن الإسلام كان يجرى على مناهجه القويمة , حتى إذا تميز الحق من الباطل وتبين الرشد من الغى وامتنع معاوية عن البيعة لعلى وحاربه فى صفين انضم بقية الصحابة إلى علىّ حتى قتل أكثرهم تحت رايته وكان معه من عظماء أصحاب النبى ثمانون رجلاً كلهم بدرى عقبى ".

وعن الفترة الأموية يقول كاشف الغطاء: " لما قتل علىّ واستتب الأمر لمعاوية وانقضى دور الخلفاء الراشدين , سار معاوية بسيرة الجبابرة فى المسلمين " .
" ثم انتهى به الأمر إلى دس السم إلى الحسن عليه السلام فقتله بعد أن نقض كل عهد وشرط عاهد الله عليه له ثم أخذ البيعة لولده يزيد قهراً".

وفى تفسيره لأسباب انتشار التشيع يقول:" ومن يوم خلافة معاوية ويزيد انفصلت السلطة المدنية عن الدينية وكانت مجتمعة فى الخلفاء الأولين فكان الخليفة يقبض على إحداهما باليمين وعلى الأخرى بالشمال , ولكن من عهد معاوية عرفوا أنه ليس من الدين على شىء , وأنّ الدين له أئمة ومراجع هم أهله وأحق به ولم يجدوا من توفرت فيه شروط الإمامة والعلم والزهد والشجاعة وشرف الحسب والنسب غير علىّ وولده ...
فلم يزل التشيع لعلى عليه السلام وأولاده يسرى فى جميع الأمة الإسلامية خفيا وظاهراً ومستوراً وبارزاً "
"ثم تلاه شهادة الحسين ,وما جرى عليه يوم الطف مما أوجب انكسار القلوب والجروح الدامية فى النفوس .
وكثير من أمثال ذلك ( الحسن والحسين ) يبثون تلك الأحاديث وينشرون تلك الفضائل وبنو أمية يلغون فى دمائهم ويتعقبونهم قتلاً وسماً وأسراً كل ذلك كان بطبيعة الحال مما يزيد التشيع شيوعاً وانتشاراً ويجعل لعلى وأولاده المكانة العظمى فى النفوس وغرس المحبة فى القلوب .
فكان بنو أمية كلما ظلموا واستبدوا واستأثروا وتقاتلوا على الملك كان ذلك كخدمة منهم لأهل البيت وترويجاً لأمرهم وعطفاً للقلوب عليهم , وكلما شددوا فى الضغط على شيعتهم ومواليهم وأعلنوا على منابرهم سب علىّ وكتمان فضائله وتحريرها إلى مثالب انعكس الأمر وصار رد فعل عليهم , ثم خلفتها الدولة العباسية فزادت , وتتبعوا الذرارى العلوية من بنى عمهم فقتلوهم تحت كل حجر ومدر ".
ويقول عن انتشار التشيع : "ضع قبالة ذلك سيرة بنى على وانسبها إلى سيرة المروانيين والعباسيين , هناك تنجلى لك الحقيقة فى أسباب انتشار التشيع وتعرف سخافة المهووسين إنها نزعة فارسية أو سبأية أو غير ذلك هناك تعرف إنها إسلامية محمدية لا غير" .
"الإمام على زين العابدين بعد شهادة أبيه انقطع عن الدنيا وأهلها وتخلص للعبادة وتربية الأخلاق ... وانتهى الأمر إلى ولده محمد الباقر وحفيده جعفر الصادق فشادوا ذلك البناء , وجاءت الفترة بين دولتى بنى أمية وبنى العباس , فاتسع المجال للصادق, وارتفع كابوس الظلم وحجاب التقية ,فتوسع فى بث الأحكام الإلهية, ونشر الأحاديث النبوية التى استقاها من عين صافية من أبيه وجده عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وظهرت الشيعة ذلك العصر ظهوراً لم يسبق له نظير .
اشتغال بنو أمية وبنو العباس فى تقوية سلطانهم ومحاربة أضدادهم وإنهاكهم فى نعيم الدنيا وتجاهرهم بالملاهى والمطربات وانقطاع بنى علىّ إلى العلم والعبادة والورع والتجافى عن الدنيا وشهواتها , وعدم تدخلهم فى شأن السياسة كل ذلك هو الذى أوجب انتشار مذهب التشيع وإقبال الجم الغقير عليه .
وكانت هذه العقيدة الإيمانية والعاطفة الإلهية كشعلة نار فى نفوس بعض الشيعة تدفعهم إلى ركوب الأخطار , وإلقاء أنفسهم على المشانق وتقديم أعناقهم أضاحى للحق وقرابين للدين ".
هكذا عرض الشيخ كاشف الغطاء أصل الشيعة .

وفى بداية تناولنا لنشأة الشيعة كما نعتقدها يجب أن نوضح معنى كلمة شيعة, فكلمة شيعة تعنى فى المعنى العام الأحباب والأنصار والأتباع, أى ما يفيد الالتفاف حول فكرة أو أحد من الناس , والشيعة من يتقوى بهم الإنسان , فأى جماعة متجانسة متجمعة حول فكر أو مبدأ أو رجل واحد يقال عنها شيعة كذا .
وأُطلِق اصطلاحياً على سبيل القصر بعد ذلك على المسلمين الذين يخصون علياَ بالحب, ويتعصبون له على أنه كان الأولى بالخلافة من أبى بكر وعمر وعثمان .
يقول ابن منظور : الشِّيعةُ أَتباع الرجل وأَنْصارُه أَصلُ الشِّيعة الفِرقة من الناس , وقد غلَب هذا الاسم على من يَتَوالى عَلِيًّا وأَهلَ بيته رضوان الله عليهم أَجمعين حتى صار لهم اسماً خاصّاً فإِذا قيل فلان من الشِّيعة عُرِف أَنه منهم وفي مذهب الشيعة كذا أَي عندهم وأَصل ذلك من المُشايَعةِ وهي المُتابَعة والمُطاوَعة قال الأَزهري والشِّيعةُ قوم يَهْوَوْنَ هَوى عِتْرةِ النبي صلى الله عليه وسلم ويُوالونهم .

وتحت عنوان "دور التشيع فى بناء الحضارة الإسلامية " يقول الشيخ يعقوب الجعفرى:لمفهوم التشيع ثلاثة معان فى إطارالتاريخ الإسلامى:
1- المعنى الخاص باللفظ وهو الاعتقاد بخلافة الإمام على وأحقيته فى ذلك , وهذا ينطبق على سائر فرق الشيعة .
2- يطلق على الغالبية من المسلمين التى بايعت عليّاً بالخلافة بعد مقتل عثمان , وإن لم تنطبق عليها مواصفات المعنى الخاص للتشيع فى مقابل شيعة معاوية , وهم عرفوا فى مصادر التاريخ بالشيعة من دون صدق المعنى الاصطلاحى عليهم .
3- يطلق على كل موالٍ لأهل البيت , فبعض المعتزلة ممن هم ليسوا شيعة بالمعنى الأخص كان يطلق عليهم الشيعة المعتزلة لاعترافهم بفضائل علىّ وعلمه .
ولبيان المعنى الاصطلاحى يجب علينا أن نسترجع آراء المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فى الخلافة , فبالإضافة إلى الرأى الأول وهو رأى الأنصار فى السقيفة حيث اتجهوا إلى سعد بن عبادة , والثانى كان رأى أبى بكر ومن معه من المهاجرين- رضى الله عنهم - فى أن الإمامة فى المهاجرين من قريش , كان هناك فريق ثالث رأى أن الخلافة فى بنى هاشم وهم أسرة النبى صلى الله عليه وسلم , ونادوا بعلىّ رضى الله عنه لامتيازه على كل بنى هاشم بالسبق إلى الإسلام والدفاع عنه , والعلم والفقه فى الدين.
وفكرة الأولوية والأفضلية لخلافة النبي الكريم ظهرت بعد وفاته مباشرة , واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة لينظروا في أمر الخلافة , وكادت تحدث فتنة بين المجتمعين لولا أن الخليفة " عمر بن الخطاب " حسم الأمر وبايع أبا بكرٍ فبايعه المسلمون بعد ذلك ، وتخلف الإمام " عليّ " عن البيعة بعض الوقت, إلا أنه بايع الخليفة الجديد " أبا بكر " وهو راض عن البيعة مقبل عليها، غير أن فكرة الأولوية كانت تراود نفس الإمام ومعه السيدة " فاطمة الزهراء " وبعض صحابة الإمام وبني هاشم , حتى أن الخليفة " عمر بن الخطاب " قال لابن عباس وهو يشير إلى عليّ : ( أما والله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا خفناه على اثنين: حداثة السن وحبه بني عبد المطلب.
و الخليفة " عمر بن الخطاب " وهو على فراش الموت يشير إلى الإمام "علي" ويقول:(والله لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء).
ففكرة التشيع لعليٍّ بهذا المعنى ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم , حيث كان التشيع يعني أن الإمام " علياًّ " أولى بالخلافة وأحق بها من غيره , ولكن المسلمين نزولاً لأوامر القرآن الكريم الذي يقول:
( وأمرهم شورى بينهم ) الشورى آية 38 , ارتضوا " أبا بكر " خليفة , والإمام ارتضاه كما ارتضاه غيره , وبايعه كما بايعه غيره , وهكذا كان موقفه مع الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضى الله عنهم جميعاً , فبايعهما وأخلص لهما في المشورة والرأي.
فهناك رأى يرى أنّ "علياً بن أبى طالب" - رضى الله عنه- عندما بلغه خبر البيعة لأبى بكر فى أول الأمر لم يرض عنها , وأن تكون الخلافة فى بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وأقرب الناس إليه- صلى الله عليه وسلم- عمه "العباس بن عبد المطلب" وابن عمه "علىّ بن أبى طالب" , ولكن "العباس" لم يكن من السابقين إلى الإسلام فكان أولى الناس من قرابة النبىّ "على بن أبى طالب" , ولم ينازع "العباس" "علياً" فى أولويته للخلافة وإن نازعه فى أولويته فى الميراث فى فدك.
وحجة أصحاب هذا الرأى أن أقرب الناس إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- أولى أن يخلفوه وأنّ بيت بنى هاشم خير من بيت "أبى بكر" , فالعرب لهم أطوع , وأنّ المهاجرين احتجوا على الأنصار بأنهم قوم النبى وعشيرته فآل النبى وأقربهم إليه أولى .
لقد سأل "عليُّ" عما حدث فى سقيفة بنى ساعدة فقال: فماذا قالت قريش؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم , فقال علىُّ : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة .
ودعا إلى هذا الرأى علىُّ وأيده بعض بنى هاشم والزبير بن العوام وعطف عليه بعض الأنصار لمّا كان موقفهم وموقف علىّ سواء فى ضياع الأمر منهم .
ويصر الشيعة على أن التشيع ظهر فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم , وكنتيجة لأحاديث منسوبه إليه صلى الله عليه وسلم .
فقالوا أنّ جمعاً من الصحابة كان يرى أن عليّاً أفضل من أبى بكر وعمر وغيرهما, وذكروا أنّ ممن كان يرى هذا الرأى عمار وأبوذر و المقداد بن الأسود وسلمان الفارسى وجابر بن عبد الله والعباس وبنوه وأُبىّ بن كعب وحذيفة وغيرهم ممن وافقت مودته مودة علىّ وهم أول من تشيع لعلى فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم وبعده .
وأطلقوا عليها الشيعة العلوية , وهؤلاء كانوا منقطعين إليه , ويقولون بإمامته , ويفرق المؤرخون بين هذا التشيع المبكر, والتشيع الاصطلاحى الذى تطور وصار مذهباً له أصوله وقواعده , كالقول بوجوب الإمامة وعصمة الإمام والتقية.
فالتشيع المبكر هو المعنى البسيط للتشيع الذى يقول أنّ عليّاً أولى من غيره بالخلافة من وجهتين ؛ كفايته الشخصية , وقرابته للنبى صلى الله عليه وسلم , كان النواة التى تكون التشيع الاصطلاحى حولها .
ولم تمت النظرة القائلة بأولوية علىّ فى الخلافة فى عهد أبى بكر وعمر , ولكن سكنت وخمدت وساعد على سكونها وخمودها عدل أبى بكر وعمر , وأنهما لم يعيرا العصبية القبلية أىّ التفات , وزاد فى سكونها اشتغال الناس بالحروب والفتوح فلم يجد الناقمون مجالاً يدخلون منه على الناس لإثارتهم الفتن.
فبعد وفاة عمر بن الخطاب رضى الله عنه أظهر المقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وسلمان الفارسى الدعوة لعلىّ أثناء الشورى حتى خاف بعض أهل الشورى تفرق الناس فطلب سعد بن أبى وقاص من عبد الرحمن بن عوف أن يتعجل القضاء فى الأمر , فلما بايع عبدالرحمنُ عثمانَ دخلوا جميعا فيما دخل فيه الناس كما فعل علىُّ نفسه رضى الله عنهم أجمعين.
وظهرت الجماعات فى أواخر عهد سيدنا عثمان تدعو إلى خلعه , ومنها من كانت تدعو إلى ولاية علىّ , ومن أشهر الدعاة له عبدالله بن سبأ الذى كان من أكبر الذين ألّبوا الناس على عثمان حتى قتل .
وتكاثرت شيعة علىّ لما نقم الناس على عثمان فى السنوات الأخيرة من خلافته , ثم لمّا ولى علىُّ الخلافة, حيث أصبح غالبية المسلمين أتباع لعلى رضى الله عنه , ولذا اعتبرتهم الشيعة من الشيعة .
وعلى ذلك انقسم المسلمون فى خلافة علىّ رضى الله عنه إلى حزبين : الحزب الأكبر وقد سمى شيعة علىّ , والحزب الأقل وقد سمى شيعة معاوية .
فالتشيع أول الأمر (فى حياة سيدنا على ) لم يكن فرقة دينية بل فكرة سياسية تعبر عن رأى سياسى يرجح سيدنا علىّ رضى الله عنه على غيره من الصحابة , وكان المسلمون يتفاوتون فى مدى تحمسهم لسيدنا علىّ وانتصارهم له .
وانتصارهم له كان انتصاراً سياسياً ولم يكن انتصاراً دينياً , فسيدنا علىّ أحق بالخلافة فى نظرهم لفضله وعلمه وحكمته , ولم يكن انتصارهم له أكثر من انتصار لمبدأ الخلافة .
وإذا كان الخلاف قد بدأ سياسياً , إلا أن طبيعة السياسة الإسلامية ذات صلة بالدين , وهو قوامها ولبها , ولذلك كانت مبادئ المذاهب السياسية تحوم حول الدين , وتعرضت لأمور تتعلق بأصول الدين حول العقيدة والإيمان , فكان لها رأى قائم فيها, وتجاوز البعض إلى آراء فى الفروع, فكان للمذهب السياسى آراء فى الاعتقاد ومذهب فقهى فى الفروع أبقى أثراً فى التاريخ من المذهب السياسى.
و الخلاف بين علىُّ رضى الله عنه والأمويين الخارجين عليه انبعث عن فكرة هى : من لهم حق اختيار الخليفة ؟ أهم أهل المدينة وحدهم والناس لهم تبع , أم حق الاختيار للمسلمين كافة ؟
فالخلاف تفاعل بين المذاهب السياسية والحوادث الواقعة نتج عنه نشأة الخوارج والشيعة .
وعندما استقر سيدنا علىُّ فى الكوفة سعى ابن سبأ إليه وتظاهر بحبه , وكان قد تشيع له ونادى بحقه فى الخلافة , وصدّقه كثير من المسلمين فى قوله بالوصاية والرجعة .
وجاء ابن سبأ عليّاً مع آخرين يسألونه عن أبى بكر , فردّهم رداً عنيفاً لائماً لهم على تفرغهم لمثل هذا على حين كانت مصر قد فتحت من قِبَل "معاوية" وقتلت فيها شيعة "علىّ" .
ثم ألّهوا عليّاً وضاق علىُّ بهذا التأليه وحرق بعض القائلين به بالنار فى حفرتين , فعلىّ رضى الله عنه خاف من إحراق الباقين منهم شماتة أهل الشام , وخاف اختلاف أصحابه عليه , ونفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن مما أدّى إلى نشر فكرة الوصاية هناك فانتشر التشيع بين الفرس وكذلك فكرة الرجعة , واستمر التأليه بعد موت سيدنا علىّ.
والبغدادى فى الفرق بين الفرق أخرج السبئية من فرق أمة الإسلام لتسميتهم عليّاً إلها.
وكان ابن سبأ أول من أشهر القول بفرض إمامة علىّ , وأظهر البراءة من أعدائه , وكان يقول فى علىّ ما كان يقول وهو على يهوديته فى يوشع بن نون بعد سيدنا موسى .
ولمّا قتل سيدنا "علىّ" زعم "ابن سبأ" أنّ المقتول لم يكن "عليّاً" وإنّما كان شيطاناً تصور فى صورته , وأنّ "عليّاً" صعد إلى السماء مثل سيدنا "عيسى بن مريم"- عليه السلام- وأنه سينزل إلى الدنيا , وقال لمن جاء بنعى "علىّ" : لو جئت بدماغه فى سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمت أنه لم يمت ولم يقتل ولا يموت حتى يملك الأرض ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً . فهو المنتظر عندهم .

ولما قتل سيدنا "علىّ" التقت الفرقة التى كانت معه والفرقة التى كانت مع "طلحة" و"الزبير" والسيدة "عائشة" فى فرقة واحدة مع "معاوية ابن أبى سفيان" , وبايعه الجميع إلا الخوارج .
لقد قتل سيدنا "-علىّ رضى الله عنه- وليس له حزب منظم , ولا شيعة مميزة , بل لم ينظم الحزب العلوى , ولم توجد الشيعة المميزة إلا بعد أن تم اجتماع الأمر "لمعاوية" وبايعه "الحسن" .
وبعد مقتل الإمام "علىّ" تمركزت حركة المعارضة للأمويين فى العراق, لكنها لم تكن فقط معارضة متشيعة لسيدنا "على" وولديه (وهى مختلفة عن التشيع الذى ستكتمل ملامحه فيما بعد ) بل كانت هناك حركة أخرى هى الخوارج , ثم ظهرت القدرية والجهمية والجعدية , فلم تستأثر الشيعة بساحات الصراع التى توزعت على هذه الفرق , ولذلك لا يمكن اعتبار العراق فى ذلك الوقت - رغم نزول علىّ فيه - إقليم شيعى , بل هو مركز للمعارضة المتعددة الفئات , فالكوفة لم تصبح شيعية خالصة , رغم أنها كانت عاصمة "على ابن أبى طالب"- رضى الله عنه- التى قاتلت الأمويين إلى جانبه .
ولدى التدقيق فى شخصيات الكوفة الثقافية فى تلك الفترة لا نجد من بينها إلا القليل من الشيعة .
فلا يمكن ربط نشأة التشيع فى العراق بحركة المعارضة التى بدأت من عهد الخليفة الثالث , فقد كانت هناك معارضة يقودها شيعة وجمهورها ليس بالضرورة من الشيعة , وأخرى يقودها الخوارج وجمهورها ليس بالضرورة من الخوارج , وبقى الحال إلى أن حصل الفرز بين القيادة الشيعية بدءاً من حركة زيد بن على زين العابدين .

الحسن بن علىّ (ت 49هـ )
كان الحسن من الذين أسرعوا إلى دار عثمان , فقاموا دون الخليفة يريدون حمايته , ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان , فكان عثمانياً بالمعنى الدقيق للكلمة , و كان الحسن كارها للفتنة منذ ثارت .
وشهد الحسن مع أبيه مشاهده فى البصرة وصفين والنهروان دون أن يشارك فيها لأن أباه كان يضن به وبالحسين على الخطر مخافة أن يصيبهما شر فتنقطع ذرية النبى صلى الله عليه وسلم , وكان يقيهما بنفسه وبأخيهما محمد بن الحنفية .
وكانت شيعة علىّ ( كل من كان مع أمير المؤمنين علىّ وقت وفاته ) قد قالت بإمامة الحسن بن علىّ بعد أبيه , ولم يعرض نفسه على الناس, ولم يتعرض لبيعتهم وإنما دعا إلى هذه البيعة قيس بن سعد بن عبادة , فبكى الناس واستجابوا , و أخرج الحسن فأجلس للبيعة , واشترط على الناس أن يسمعوا ويطيعوا ويحاربوا من حارب ويسالموا من سالم , فلما سمع منه تكراره لأمر السلم أثابوا وظنوا أنه يريد الصلح .
ونهض للحرب يريد أهل الشام لأنهم لم ينزلوا على طاعة أمير المؤمنين علىّ وبعده الحسن , وكان فى نيته الصلح فهو لا يحب القتال بل إنه كان معارضاً لخروج علىّ لقتال أهل الشام .
خرج بالناس إلى المدائن , وبعث قيس بن سعد على مقدمته فى اثنى عشر ألفاً لقتال معاوية , وأقبل معاوية فى أهل الشام حتى نزل مَسكن .
وبينما هو فى المدائن إذ نادى منادٍ فى العسكر : ألا إنّ قيس بن سعد قد قُتِل فانفروا , فنفروا ونهبوا سرادق الحسن حتى نازعوه بساطاً كان تحته , وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن فلما رأى تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح.
لما تنحى الحسن عن محاربة معاوية , وانتهى إلى مظلم ساباط وثب عليه رجل من بنى أسد يقال له الجرّاح بن سنان , فأخذ بلجام دابته , ثم قال : الله أكبر , أشركت كما أشرك أبوك من قبل . وطعنه بمغول فى أصل فخذه فقطع الفخذ إلى العظم , فاعتنقه الحسن وخرا جميعاً فاجتمع الناس على الجرّاح فوطأوه حتى قتلوه ثم حملوا الحسن على سريره وقد أثخنته الجراح , فأتوا به المدائن فلم يزل بها فى منزل سعد بن مسعود الثقفى حتى صحّت جراحته ثم انصرف إلى المدينة.
فلم يزل جريحاً من طعنته سقيما فى جسمه كاظماً لغيظه متجرعاً لريقه على الشجا والأذى من أهل دعوته حتى توفى.
وكان من أثر هذه الطعنة أن ازداد الحسن بغضاً لأهل العراق , فأقام فى المدائن حتى شفى من جرحه , وتعجل السلم ثم رجع إلى الكوفة , فاستقبل فيها سفراء معاوية.
كانت الحرب تحتاج قبل كل شىء إلى الجند المؤمن المخلص فى دفاعه وليس موجوداً عنده , فكان يرى ضرورة الصلح لذلك .
خطب الحسن أهل العراق وقال : سخى نفسى عنكم ثلاث : قتل أبى , وطعنى , وانتهاب بيتى . ثم قال : ألا وقد أصبحتم بين قبيلتين ؛ قبيل بصفين يبكون له , وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره , وأما الباقى فخاذل, وأما الباكى فثائر , وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة , فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبى السيوف, وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى , فناداه الناس من كل جانب البقية الباقية فامض للصلح.
فكاتب الحسن معاوية وأرسل إليه بشروط , وفى نفس الوقت أرسل معاوية للحسن بصحيفة بيضاء مختوم أسفلها , وكتب إليه أن اشترط ما
شئت , فلما أتت الحسن اشترط أضعاف الشروط التى سأل معاوية قبل ذلك , وأمسكها عنده وأمسك معاوية صحيفة الحسن , وعندما التقيا لم ينفذ معاوية منها شيئاً , وكان فيما اشترط الحسن ألا يشتم علىّ وهو يسمع.
وصالح معاوية الحسن على أن يأخذ من بيت مال الكوفة (خمسة ملايين) درهم , وخراج كورتين من كور البصرة ما عاش.
قال الحسين : نشدتك الله أن تصدّق أحدوثة معاوية , وتكذّب أحدوثة علىّ . فقال الحسن : اسكت فأنا أعلم بالأمر منك .
وكتب الحسن لقيس بن سعد أن يدخل وجيشه فى طاعة معاوية . فسأل جنده إما الدخول فى طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام , فاختاروا الدخول فى طاعة إمام ضلالة , فبايعوا معاوية.
يقول ابن تغرى بردى : وكان قيس بن سعد ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعد موت علي. فلما دخل الجيش في بيعة معاوية أبى قيسُ أن
يدخل، وقال لأصحابه: ما شئتم جالدت بكم أبداً حتى يموت الأعجل، وإن شئتم أخذت لكم أماناً. قالوا: خذ لنا، ففعل.
لم يكن الحسين بن علىّ يرى رأى أخيه ولا يقرّ ميله إلى السلم , وألحّ على أخيه فى أن يستمسك ويمضى فى الحرب , ولكن أخاه امتنع عليه وأنذره بوضعه فى الحديد إن لم يطعه , ودخلا المدينة منصرفين عن الكوفة .
ولم يكن قعود الحسن عن الحرب جبناً , وإنما كان كراهية لسفك الدماء من جهة وشكّاً فى أصحابه من جهة أخرى.
فلما توادع الحسن ومعاوية , وأخذ منه المال الذى بعث به إليه على الصلح, طعن بعض الشيعة في الحسن وخالفوه ورجعوا عن إمامته, فدخلوا فى مقالة جمهور الناس , وكان من بقى من أنصار الحسن وشيعته من خيرة المسلمين , وهم خلاصة من كان مخلصاً لسيدنا علىّ قبل وفاته .
وبعد بيعة الحسن لمعاوية أظهر معاوية لأهل العراق شدة بعد لين , وعنفاً بعد رقة , فجاء أهل العراق مكة يعاتبون الحسن , ويخبرونه أن معاوية نقض الصلح على رؤوس الأشهاد , ويطلبون أن يعيد الحرب, وأن يأذن لهم فى أن يخلعوا معاوية , ويخرجوا عامله على الكوفة .
وبهذا اللقاء تكوّن الحزب السياسى المنظم لشيعة علىّ وبنيه , وأصبح الحسن له رئيساً , وعاد أشراف أهل الكوفة إلى من ورائهم ينبئونهم بالنظام الجديد .
وكانت الشيعة تنشط أشد النشاط فى نشر الدعوة للإمام من أهل البيت بحيث يئول الأمر إليه حين يستشار المسلمون فى أمر خلافتهم بعد معاوية .
فالشيعة فى هذا الوقت كانت رأياً سياسياً ليس أكثر, كما كانت دعوة الأمويين , والفرق الإسلامية كانت عند نشأتها أحزاباً سياسية , والاختلاف بينها لم يكن اختلافاً فى صلب العقيدة الإسلامية , وإنما كان اختلافاً فى الرأى حول طريقة الحكم واختيار الحاكم , والشيعة ركزوا فكرهم على الحكم , وأحقية سيدنا علىّ فيه هو وذريته .

معاوية بن أبى سفيان
غيّر معاوية سياسته تغييراً تاماً بعد قتل الإمام على رضى الله عنه , فأعرض عن العنف ومال إلى الرفق وأمعن فيه , وكأنه كان يعرف عثمانية الحسن , وبغضه للفتنة , وتحرجه من سفك الدماء .
ويتجلى الأمر فى قول معاوية لعمرو بن العاص عندما نصحه بقتال الحسن فقال له : على رسلك يا أبا عبد الله , فإنك لا تخلص من قتل هؤلاء حتى يقتل عددهم من أهل الشام فما ضير الحياة بعد ذلك , وإنى والله لا أقاتل حتى لا أجد من القتال بداً.
دخل معاوية الكوفة بعد الصلح فبايعه الناس , وأظهر لأهل العراق شدة بعد لين ,وعنفا بعد رفق , فأعلن إليهم أول الأمر ألا بيعة لهم عنده حتى يكفوه بوائقهم ويردوا عنه خوارجهم هؤلاء الذين خرجوا عليه , فمضى أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم كما كانوا يقاتلونهم أيام علىّ.
وأعلن معاوية أنّ ذمته بريئة ممن لم يقبل فيعطى البيعة , وأجّلهم ثلاثاً, فأقبل الناس من كل مكان يبايعون .
جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيام علىّ فيحزنون عليها , ويندمون على ما كان من تفريطهم فى جنب خليفتهم , ويندمون على الصلح.
ولما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة من قِبَل معاوية رفق بالناس , وسمح لهم وترك لمعارضى بنى أمية من أنصار علىّ ومن الخوارج قدراً من الحرية , وساهم ذلك فى نمو التشيع , فكلما بدأه الشيعة بالكلام القاسى
نصح لهم ورفق بهم وحبب إليهم العافية , وقد انتفع الشيعة بهذه السياسة , فنظموا أمورهم وعارضوا سياسة الأمويين معارضة حرة , ولم ينكر الشيعة خلال عشر سنين قضاها المغيرة والياً على الكوفة شيئاً ذا خطر إلا أنّ يكون عيبه لعلىّ .
ولما صار الأمر إلى زياد بن عبيد الله فى العراق اشتدّ فى أمر الخوارج , فلم ينتظر بهم أن يخرجوا فجعل يستقصى أمورهم , ويتتبع أفرادهم حيث يكونون , ويأخذهم بالشبهة والظن , فكثر القعود بين الخوارج فى أيامه .
وجاء أهل العراق يعاتبون الحسن , ويخبرونه أنّ معاوية نقض الصلح على رءوس الأشهاد , ويطلبون أن يعيد الحرب , وأن يأذن لهم فى أن يخلعوا معاوية , ويخرجوا عامله على الكوفة .
وكان الحسن نفسه وفيّاً لمعاوية ببيعته,ولكنه على ذلك كان معارضاً,
و لم يكن يستخف بمعارضته,وكان معاوية رفيقاً بالحسن واصلاً له أحسن الصلة , وهذا لأن معاوية أجاد قراءة شخصية الحسن المسالمة .
يقول ابن خلدون عن معاوية بعد بيعة الحسن له :
"استوت قدمه , واستفحل شأنه , واستحكمت فى أرض مصر رياسته , وتوثق عقده , وأقام فى سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التى لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يداً من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبنى هاشم وآل الزبير وأمثالهم , ويصانع رءوس العرب , وقروم مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه , وكانت غايته فى الحلم لا تدرك وعصابته فيها لا تنزع , ومرقاته فيها تزلّ عنها الأقدام ".
وفى سنة 56هـ أعفى معاوية المغيرة بن شعبة عن الكوفة وأراد أن يولّى سعيد بن العاص , فدخل المغيرة على يزيد , وعرّض له بالبيعة, فأدّى ذلك يزيد إلى أبيه فردّ معاوية المغيرة إلى الكوفة فأمره أن يعمل فى بيعة يزيد , وأمر معاوية الناس أن يبايعوا لابنه يزيد من بعده حيث عدل عن طريقة من سبقه .
وكان الحسن قد اشترط عليه أن تكون الخلافة بعده شورى بين المسلمين , وقيل لمعاوية إما أن تتركها كما كانت على زمن النبى صلى الله عليه وسلم , أو ما كان عليه أبو بكر الصديق, واعط الخلافة لرجل ليس منك , أو ما كان عليه عمر لأنه جعلها فى ستة ليسوا من أهل بيته , أو أن تترك الأمر والمسلمون يختارون .

الحسين بن على
صارت رياسة الشيعة إلى أبى عبدالله الحسين بن علىّ بعد وفاة الحسن سنة49هـ , وخالف سياسة أخيه التى ساس بها الحزب , فأطلق لسانه فى معاوية وولاته , وأغرى حزبه فى الاشتداد فى الحق و الإنكار على الأمراء ففعلوا, وكانت الكوفة خاصة مركز المعارضة العنيفة لمعاوية وعامله زياد .
وبسبب سياسة الحسن لم يؤذ الشيعة فى أنفسهم ولا فى أموالهم ما عاش الحسن , فلما صار أمر الشيعة إلى الحسين وعنفت المعارضة كادت أن تصبح ثورة فى الكوفة لقيها معاوية وولاته بالشدة المفرطة .
فقد كانت سياسة الحسين مقوية للشيعة , ومضعفة لها فى وقت واحد لأنها جعلتهم مضطهدين , وجرت عليهم المحن القاسية , مما روّج لآرائهم وأغرى الناس باتباعهم , ولذلك عظم أمر الشيعة فى الأعوام
العشرة الأخيرة من حكم معاوية , وانتشرت دعوتهم فى شرق الدولة الإسلامية وفى جنوب بلاد العرب , ومات معاوية وكثير من الناس وعامة أهل العراق يرون بغض بنى أمية وحب آل البيت لأنفسهم ديناً.
لقد قاتل معاوية عليّاً على دم عثمان من جهة , وعلى أن يرد الخلافة شورى بين المسلمين من جهة أخرى , فلما استقام له السلطان نسى ما قاتل عليه , أو أعرض عما قاتل عليه لرأى رآه .
ولما أراد مصالحة الحسن عرض عليه أن يجعل له ولاية الأمر من بعده فأبى الحسن ذلك , واشترط فيما اشترط أن يعود الأمر بعد معاوية شورى بين المسلمين , يختارون لخلافتهم من أحبوا, فقبل معاوية(2).
وبعد أن أمر معاوية الولاة لأخذ البيعة ليزيد , مرض مرضه التى هلك فيه وقد بايع الناس ليزيد إلا خمسة أشخاص ؛ الحسين بن على و عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبى بكر وعبد الله بن عباس , فيقول ليزيد وهو على فراش الموت :
" وإنى لا أتخوف أن ينازعك بن علىّ وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبى بكر ,فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة , وإذا لم يبق أحد غيره بايعك , وأما الحسين بن علىّ فإنّ أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه , فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه , فإنّ له رحماً ماسة وحقاً عظيمة , وأما ابن أبى بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثلهم , ليس له همّة إلا فى النساء واللهو , وإما الذى يجثم لك جثوم الأسد , ويراوغك مراوغة الثعلب , فإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير , فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطّعه إرباً إرباً ".
فلم يكن ليزيد همة حين ولى إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى البيعة , فكتب إلى الوليد بن عتبة والى المدينة ليبايعهم , ويأخذ عليهم بشدة .
ولما دعاهم قال الحسين : إن مثلى لا يعطى البيعة سراً , فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً , وكان الوليد يحب العافية , وكان يرى فى قتل الحسين لضياع للدين.
أما عبد الله بن الزبير فقال : أنظر هذه الليلة وأخبركم برأيى .
فقالوا : نعم . فلما كان الليل خرج من المدينة هارباً إلى مكة, ولم يبايع, وفى اليوم التالى تشاغل الوليد بطلب ابن الزبير فخرج الحسين إلى مكة ليلاً ببنيه وإخوته وبنى أخيه وجُلّ أهل بيته إلا محمد بن الحنفية.
وقال عبد الله بن عمر : إذا بايع الناس بايعت . وكانوا لا يتخونونه .
وحدث أن اجتمع أهل الكوفة فى بيت سليمان بن صرد الخزاعى بحضور المسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد البجلى وحبيب بن مظاهر وعبد الله بن وال وقرروا إرسال وفد من قِبَلِهم , وعليهم أبو عبد الله الجدلى .
وأتى أهل الكوفة الحسين فى مكة وقالوا : إنا قد حبسنا أنفسنا عليك , ولسنا نحضر الجمعة مع الوالى فأقدم علينا, إنا بايعناك ولا نريد إلا أنت , وليس فى أعناقنا بيعة ليزيد . وتكاثرت الكتب على الحسين حتى بلغت أكثر من خمسمائة كتاب من أهل الكوفة .
فبعث الحسين إلى مسلم بن عقيل بن أبى طالب فقال له : سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلىّ فإن كان حقاً خرجنا إليهم.
فقدم الكوفة ونزل عند هانئ بن عروة المرادى , وجاء الناس يبايعونه على بيعة الحسين , وكان النعمان بن بشير أمير الكوفة من قِبَل يزيد يظهر كأنه لم يسمع شيئاً , ولم يعبأ بالأمر حتى خرج بعض الذين عنده إلى يزيد فى الشام وأخبروه بالأمر, فعزل النعمان بن بشير.
وتولى عبيد الله بن زياد إمارة الكوفة مع البصرة على أن يقتل ابن عقيل إن وجده , فوصل عبيد الله الكوفة ليلاً متلثماً فكان عندما يمر على الناس يسلم عليهم فيقولون : وعليك السلام يا ابن بنت رسول الله . يظنون أنه الحسين.
فدخل القصر وأرسل مولى له فسأل حتى وجد مسلم وأخبر عبيد الله .
كان مسلم بن عقيل قد أرسل إلى الحسين أن أقدم فإنّ الأمر قد تهيأ ببيعة اثنى عشر ألفاً من أهل الكوفة .
وأحضر عبيد الله بن زياد بابن هانئ بن عروة فسأله : أين مسلم بن عقيل ؟ فقال : والله لو كان تحت قدمى ما رفعتها . فضربه عبيد الله وحبسه , وبلغ الخبر مسلم بن عقيل , فخرج فى أربعة آلاف وحاصر
قصر عبيد الله , وخرج أهل الكوفة معه , وكان عند عبيد الله فى ذلك الوقت أشراف الناس , فقال لهم : خذّلوا الناس عن مسلم ووعدهم بأن يعطيهم , وخوفهم بجيش الشام , فصار الأمراء يخذّلون الناس عن مسلم , فما زالت المرأة تأتى وتأخذ ولدها , ويأتى الرجل ويأخذ أخاه , ويأتى أمير القبيلة فينهى الناس حتى لم يبق معه إلا ثلاثون رجلاً .
ما غابت الشمس إلا ومسلم بن عقيل وحده يمشى فى دروب الكوفة حتى لجأ إلى بيت امرأة من كندة , قام ولدها بإخبار عبيد الله بمكان مسلم , فأرسل إليه سبعين رجلاً , فحاصروه فقاتلهم ورفض الاستسلام حتى أمنوه , فأخذوه إلى قصر الإمارة, وقبل قتله أوصى عمر بن سعد بن أبى وقاص بأن يرسل إلى الحسين بأن يرجع , فأرسل عمر رجلاً إلى الحسين ليخبره بأنّ الأمر قد انقضى , وأنّ أهل الكوفة قد خدعوه,
وأخبره قولة مسلم المشهورة : ارجع بألك لا يغرّنّك أهل الكوفة , فإنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبونى , وليس لكاذب رأى.
كان الحسين قد نزل مكة فأقبل أهلها ومن كان بها من المعتمرين يختلفون إليه , وابن الزبير قد لزم الكعبة , ويأتيه الحسين فيمن يأتيه ,
ويشير عليه بالرأى وهو أثقل خلق الله على الزبير , فقد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً مادام الحسين بالبلد , وأنّ حسيناً أعظم فى أعينهم وأنفسهم منه وأطوع فى الناس منه .
ولما أجمع الحسين المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس فقال : فإنى أعيذك بالله من ذلك , أخبرنى رحمك الله , أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم , وضبطوا بلادهم , ونفوا عدوهم ؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم , وإن كانوا إنما يدعوك إلى الحرب والقتال ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك , فقال الحسين : إنى أستخير الله وأنظر ما يكون .
وقال له ابن الزبير : أما إنّك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إن شاء الله .
ثم أتاه ابن عباس فقال : يابن عمّ إنّى أتصبر ولا أصبر , إنّى أتخوف عليك فى هذا الوجه الهلاك والاستئصال , إنّ أهل العراق قوم غُدُر فلا تعربنّهم أمم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز , فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا , فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم , فإن أبيت إلا أنه تخرج فسر إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً , ولأبيك بها شيعة , وأنت عن الناس فى عزلة . لقد أقررت عين ابن الزبير بتخلّيك إياه الحجاز والخروج منها وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك .
وكذلك حاول كثير من الصحابة منع الحسين من الخروج مثل عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو سعيد الخدرى ومحمد بن الحنفية ,ولما خرج الحسين من مكة اعترضه رُسُل عمرو بن سعيد بن العاص, حيث كتب له كتاباً يدعوه لعدم الشقاق ويعلن خوفه عليه ويعطيه الأمان والصلة والبر إن أتاه مسالماً , ورد عليه الحسين أن يجازيه خيراً إن أراد بكتابه الصلة والبرومضىالحسين على وجهه.
وفى الصفاح لقيهم الفرزدق بن غالب الشاعر وقال له الحسين : بيّن لنا نبأ الناس خلفك . قال الفرزدق : من الخبير سألت , قلوب الناس معك وسيوفهم مع بنى أميّة والقضاء ينزل من السماء , والله يفعل ما يشاء.
جاء خبر مسلم عن طريق رسول عمر بن سعد , فهمّ الحسين أن يرجع فكلّم أبناء مسلم بن عقيل , فقالوا: لا والله لا نرجع حتى نأخذ بثأر أبينا, فنزل على رأيهم .
قال عبد الله بن مطيع العدوى للحسين : أنشدك الله فى حرمة العرب , فوالله لئن طلبت ما فى أيدى بنى أميّة ليقتلنّك , ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً .
بعد أن علم عبيد الله بن زياد بخروج الحسين , أمر الحر بن يزيد التميمى أن يخرج بألف رجل مقدمة ليلقى الحسين فى الطريق , فلقيه قريباً من القادسية بثلاثة أميال , فأوقفه الحر وقال له : ارجع فإنّى لم أدعْ لك خلفى خيراً أرجوه.
ووقف الحر بن يزيد التميمى اليربوعى مقابل الحسين فى حر الظهيرة فى منطقة ذى حُسُم أو ( البيضة ) وسمح بالسقيا لهم ولخيلهم , وصلى الحسين بالجميع صلاة الظهر ثم العصر , وكان الحر يريد أن ينطلق بالحسين إلى عبيد الله حيث أنه لم يؤمر بقتاله وإنما لا يفارقه حتى يدخله الكوفة على عبيد الله . قال الحسين : الموت أدنى إليك من ذلك .
قال الحر : لم أؤمر بقتالك , إنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة , فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة , يكون بينى وبينك نصفاً . فرضى الحسين .
وسار الحسين فى أصحابه والحر يسايره , وأعطاه ألا يتعرض له حتى يأتيه كتاب من ابن زياد .
وقرب نينوى جاء الأمر إلى الحر بن يزيد أن ينزل الحسين بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء , وساروا قليلاً حتى وصلوا كربلاء ووقف الحر و أصحابه أمام الحسين ومنعوه المسير لقربه من الفرات .
ووقف جواد الحسين فسأل الحسين عن الأرض , قالوا : تسمى الطف .
قال هل لها اسم غيره ؟ قالوا : تعرف كربلاء . فدمعت عيناه , وقال : اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء ههنا محط ركابنا وسفك دمائنا , ومحل قبورنا وبهذا حدثنى جدى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولّى عبيد الله بن زياد عمر بن سعد بن أبى وقاص هذا الأمر وجاء ابن سعد فى أربعة آلاف من الكوفة يمثلون مؤخرة الجيش , وردّ الحسين على رسول عمر بن سعد عندما سأله : ما الذى جاء به ؟
قال : كتب إلىّ أهل مصركم هذا أن أقدم فأما إذا كرهونى فأنا أنصرف عنهم .
وأمر عمر بن سعد الحسين أن يذهب معه إلى عبيد الله بن زياد , فأبى
وجاء من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد أن حُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء , ولا يذوقوا منه قطرة كما صُنِع بعثمان بن عفان.
ونازله عبد الله بن أبى حصين الأزدى على شريعة الماء , بينما سمح لهم عمرو بن الحجاج الزبيدى أخذ الماء .
وخيّر الحسين عمر بن سعد خياراته الثلاثة : إما أن تدعونى فأنصرف من حيث جئت , وإما أن تدعونى فأذهب إلى يزيد , وإما أن تدعونى فألحق بالثغور .
فقبل ذلك عمر وقال : نعم أرسل أنت إلى يزيد , وأرسل أنا إلى عبيد الله وننتظر ماذا يكون الأمر , فلم يرسل الحسين إلى يزيد , فلما جاء رسول عمر إلى عبيد الله رضى أى واحدة يختارها الحسين , ولكن
شمر بن ذى الجوشن قال له : والله لئن رحل من بلدك ولم يضع يده فى يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة , ولتكونن أولى بالضعف والعجز , فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن , ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه .
فاغتر عبيد الله بقوله وقال لشمر : اذهب حتى ينزل على حكمى فإن رضى عمر بن سعد وإلا فأنت القائد مكانه .
وأتى ابن ذى الجوشن إلى عمر بتنفيذ كتاب عبيد الله وإلا اعتزل .
ووقف شمر على أصحاب الحسين وقال : أين بنو أختنا ؟
فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علىّ من أم البنين فرفضوا الأمان الذى أعطاهم إياه وقالوا : أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟
ورد الحسين على رد عبيد الله وقال : لا والله لا يكون ذلك أبداً .

فلما قالوا : لا إلا على حكم ابن زياد ,قال الحر بن يزيد لهم : ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم ! والله لو سألكم هذا الترك والديلم ما حل لكم أن تردوه . قال عمر : أما لو كان الأمر إلىّ لفعلت , ولكن أميرك قد أبى .
فأبوا إلا على حكم ابن زياد , فصرف الحرُ وجه فرسه وانطلق إلى الحسين وأصحابه وقلب ترسه وساّم عليهم .

قال الحر وهو يلحق بالحسين : جعلنى الله فداك يا بن رسول الله أنا صاحبك الذى حبسك عن الرجوع وسايرتك فى الطريق , والله ما ظننت أنّ القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً , ولا يبلغون منك هذه المنزلة , والله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك .
زحف عمر بن سعد بعد صلاة العصر يوم 9 محرم يعرض عليهم النزول على حكم الأمير أو القتال , وطلب الحسين الانتظار إلى الغد ليرى أمره , وأجّلهم عمر إلى الغد.

وحث الحسين جيش الكوفة الذى كان عدده أربعة آلاف على ترك أمر عبيد الله والانضمام إليه فانضم له ثلاثون منهم , وصلى الحسين الظهر والعصر بالفريقين وتقدّم جيش الكوفة إلى الحسين .
جمع الحسين أصحابه فى المساء ثم قال لهم : انطلقوا جميعاً فى حِلٍ ليس عليكم منى ذمام , هذا ليلٌ قد غشيكم فاتخذوه جملا , فإنّ القوم إنما يطلبونى ولو قد أصابونى لهوا عن طلب غيرى . فقال إخوته وأبناؤه وبنو أخيه : لم نفعل لنبقى بعدك لا أراد الله ذلك أبداً.
وقاموا الليل كله يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون , وبعد صلاة الغداة عبّأ الحسين أصحابه , وكان معه اثنان وثلاثون فارسأ وأربعون راجلاً بالإضافة إلى الحر بن بن زيد الذى عدل إليه وقتل معه .
كان الحسين حريصاً ألا يبدأهم , وصاح بالقوم أنهم كتبوا إليه يستقدمونه فقالوا : لم نفعل .
وكان قد أغضبهم انضمام الحر لمعسكر الحسين , فتقدّم عمر بن سعد ورمى بسهم وقال : اشهدوا لى عند الأمير أنّى أول من رمى . ثم رمى الناس بعده .
وأخذ أصحاب الحسين يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل فى أهل الكوفة , فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقى أتدرون من تقاتلون ! فرسان المصر وأهل البصائر , وقوماً مستميتين لا يبرزنّ لهم منكم أحد , فإنّهم قليل وقلّما يبقون , والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم . فقال عمر بن سعد : صدقت الرأى ما رأيت , وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألا يبارز رجلٌ منكم رجلاً منهم .
عندما حمل عمرو بن الحجاج على الحسين فى ميمنة عمرو بن سعد صٌرع مسلم بن عوسجة الأسدى أول أصحاب الحسين , وكان الثانى عبد الله بن عمير الكلبى فى الميسرة و قتلت معه زوجته بعد أن مشت إليه.
وقاتلهم أصحاب الحسين قتالاً شديداً وأخذت خيلهم تحمل إنما هم اثنان وثلاثون فارساً , فلا تحمل على جانب من خيل الكوفة إلا كشفته , وقد كره شبث بن ربعى القتال لهم .
فقاتلوهم حتى انتصف النهار أشد قتال , وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضهم من بعض .

فأرسل عمر بن سعد رجالاً يقضون البيوت عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم فقتلهم أصحاب الحسين , فأمر بها عمر أن تُحرق بالنار , فقال الحسين : دعوهم فليحرقوها فإنهم لو حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا أليكم منها .
وطعن شمر بن ذى الجوشن فسطاط الحسين برمحه , وأراد حرقه بأهله , وحمل عليه زهير بن القين حتى كشفه عن البيوت .
وكان إذا قتل الرجل أو الرجلان من أصحاب الحسين تبين فيهم , وأولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم .
جاء الحصين بن تميم برأس حبيب بن مظاهر فى العسكر قد علقه فى عنق فرسه ثم دفعه إلى تميمى آخر حيث اشتركا فى قتله ( وفى زمان مصعب بن الزبير بن العوام قتل ابن حبيب قاتل أبيه حيث كان يتبعه),
وقتل الحر بن يزيد , وصلى بهم الحسين صلاة الظهر صلاة الخوف , واشتد القتال بعد الصلاة , فقتل زهير بن القين .
ورمى نافع بن هلال الجملى فقتل اثنى عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح فضُرب حتى كُسرت عضداه وأُخذ أسيراً , وقتله ابن ذى الجوشن.
ولما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كُثِروا وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينً ولا أنفسهم تنافسوا فى أن يقتلوا بين يديه مثل عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان وسيف بن الحارث بن سُريع ومالك بن سريع و حنظلة بن أسعد الشبامى وعباس بن أبى شبيب الشاكرىّ
وشوذب مولى شاكر والضحاك بن عبد الله المشرقى وأبو ثمامة الصائدى وسلمان بن مضارب البجلى وزهير بن القين وبرير بن خضير .
وخلص إلى الحسين وإلى أهل بيته , ولم يبق معه غير سويد بن عمر بن أبى المطاع الخثعمى وبشير بن عمرو الحضرمى والضحاك بن عبد الله المشرقى .
كان أول من قتل من بنى أبى طالب يومئذ علىّ الأكبر بن الحسين وهو شبيه الرسول صلى الله عليه وسلم , طعنه مرة بن منقذ بن النعمان العبدى,وقتل مع الحسين ثمانية عشر رجلاً كلهم من آل البيت , فقد رمى عمرو بن صبيح الصدّائى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم وقتل النبهانى عون بن عبد الله بن جعفر , وقتل عامر بن نهشل التيمى محمد بن عبد الله بن جعفر , وقتل عثمان بن خالد بن أسير الجهنىّ وبشر بن سوط الهمدانى عبد الرحمن بن عقيل , ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمى جعفر بن عقيل فقتله , وقتل عمرو بن سعد بن نفيل الأزدى الغلام القاسم بن الحسن بن علىّ , وعندما أدركه الحسين أطن ساعده وقتل تحت الخيل .
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوى أبا بكر بن الحسين بن علىّ فقتله , وقُتِل العباس وعبد الله وجعفر وعثمان أبناء على بن أبى طالب .
ورمى حرملة بن كاهل الأسدى عبد الله بن الحسن وهو صبى فى حجر الحسين فذبحه , فجعل الحسين يمسح الدم عنه ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا , وخرج بسيفه يقاتل.
وقطعت اليد المنى للحسن بن الحسن ولم يستشهد .
حين اشتد على الحسين العطش فدنا ليشرب من الماء فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع فى فمه .
أمر الحسين العباس أن يطلب الماء للأطفال فرفضوا , فنزل وملأ القربة وركب جواده فتكاثر عليه زيد بن الرقاد الجنى وحكيم بن الطفيل السنبسى وضربوه على رأسه بالعمود فسقط على الأرض , فقال الحسين الآن انكسر ظهرى وقلت حيلتى .

كانت الرجالة لتتكشّف عن يمين الحسين وشماله فخرجت زينب ابنة فاطمة أخت الحسين وهى تقول : ليت السماء تطابقت على الأرض !
يا عمر بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟
فسالت دموع عمر على خديّه ولحيته وصرف وجهه عنها .
ومكث الحسين طويلاً من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عليه .
حمل عبد الله بن عمار على الحسين بالرمح ثم انصرف عنه غير
بعيد , وقال : ما لأصنع بأن أتولى قتله ! يقتله غيرى .

واستبّ أبو الجنوب وشمر عندما دعا كل منهما الآخر ليحمل على الحسين, ومكث الحسين طويلاً من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا , حيث كان يتقى بعضهم ببعض , ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء .
جاء شمر فصاح بالناس , فجاءوا وحاصروا الحسين , فصار يجول بينهم بالسيف حتى قتل منهم من قتل , فنادى شمر : ويحكم ماذا تنظرون بالرجل ! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فَحُمِل عليه من كل جانب , فضرب زرعة بن شريك التميمى كفّه اليسرى , وضُرِب على عاتقه ثم انصرفوا وهو ينوء ويكبو وحمل عليه سنان بن أنس بن عمرو النخعى فطعنه بالرمح فوقع ثم حز رأسه .

وجد بالحسين حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة , وأربع وثلاثون ضربة , وسلب الحسن ما كان عليه فأخذ سراويله بحر بن كعب , وقطيفته قيس بن الأشعث ونعليه الأسود الأودى , وسيفه رجل من بنى نهشل بن دارم , ومال الناس على الوَرْس والحُلل والإبل وانتهبوها , ومال الناس على نساء الحسين وثَقَله ومتاعه , فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيُذهب به منها .
أراد شمر أن يقتل الصبى علىّ بن الحسين وهو منبسط على فراشه وهو مريض , ومنعه حميد بن مسلم حتى جاء عمر بن سعد فقال : ألا لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد , ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض , ومن أخذ من متاعهم شيئاً فليرده عليهم , فما رد أحد شيئاً .
وما نجا سوى عقبة بن سمعان مولى الرباب بنت امرئ القيس الكلبية وهى أم سكينة بنت الحسين .
و قتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون رجلاً سوى الجرحى وأتى خولى بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدى رأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد , وأمر عمر حميد بن بكير الأحمرى بحمل بنات الحسين وأخواته وأزواجه ومن معهم من الصبيان وعلىّ بن الحسين المريض إلى الكوفة .
قالت زينب أخت الحسين حين مرت بأخيها صريعاً : يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء , هذا الحسين بالعراء , مرمل بالدماء , مقطّع الأعضاء , يا محمداه وبناتك سبايا , وذريتك مقتّلة , تسفى عليها الصبا . فأبكت كل عدو و صديق .
وقطف رءوس الباقين , فسرح باثنين وسبعين رأساً شمر بن ذى الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس إلى عبيد الله بن زياد .
نصب عبيد الله رأس الحسين بالكوفة فجعل يدار به ثم سرّح الرءوس جميعاً مع زحر بن قيس إلى يزيد بن معاوية فى دمشق.

وروى البخارى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَام فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا فَقَالَ أَنَسٌ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَخْضُوبًا بِالْوَسْمَةِ .
جعل عبيد الله بن زياد ينكت بالقضيب الحديد على فيه فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك فوالله لربما رأيت فا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فيه يلثمه .
أمر عبيد الله بقتل الغلام المريض علىّ بن الحسين , فطرحت زينب نفسها عليه وقالت : والله لا يقتل حتى تقتلونى , فرقّ لها فتركه وكفّ عنها .
عندما أخبر يزيد بالأمر دمعت عيناه , وقال : قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين , لعن الله بن سمية , أما والله لو أنّى صاحبه لعفوت عنه , فرحم الله الحسين .
وأرسل عبيد الله النساء والصبية إلى يزيد مع محفّز بن ثعلبة العائذى وشمر بن ذى الجوشن , فلما انتهوا إلى باب يزيد قال محفّز : هذا محفّز بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة . قال يزيد : ما ولدتْ أم محفّز شرٌّ وألأم .
وعندما دخلن دار يزيد لم تبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهنّ تبكى وتنوح على الحسين .
وكان يزيد لا يتغدّى ولا يتعشّى إلا دعا عليّاً بن الحسين إليه .
وأدخلهم يزيد على عياله فجهزهم وحملهم إلى المدينة .

أثر مقتل الحسين على التشيع
وفى هذه الفترة أخذ التشيع صبغة جديدة بدخول العناصر الأخرى فى الإسلام من يهودية ونصرانية ومجوسية .
ونجح بعض من هؤلاء فى أن يصبغون بعض فرق التشيع بصبغة دينهم , واقتضت عدة ظروف أن يكون أكبر عنصر فى هذه الفرق هو العنصر الفارسى مما ساهم فى أن يكون له أثر كبير فى التشيع
واتخذ التشيع معنى محدداً انحصر فى إمامة علىّ بن أبى طالب وأبنائه وأحفاده من بعده , وبهذا تشيع كل من يؤمن بأحقية علىّ وذريته للخلافة , وتشيع أيضاً كل من كره الحكم الأموى , وكان للعداء القبلى أثره فى التشيع ضدّ من تعصب للأمويين , وتشيع أيضاً الموالى ضد الحكم الأموى المصبوغ بالأرستقراطية العربية .
فتشيع جزء من الفرس لأنهم مرنوا أيام الحكم الفارسى على تعظيم البيت المالك وتقديسه , وأنّ دم الملوك ليس من جنس دم الشعب , فلما دخلوا فى الإسلام نظروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة كسروية , ونظروا إلى أهل بيت الرسول نظرتهم إلى البيت المالك , فإذا مات النبى صلى الله عليه وسلم فأحق الناس بالخلافة أهل بيته.
لقد أجمعت الفرس على التشيع بعد زواج الحسين من شهربانو (سلافة) ابنة يزدجرد بعد أن وقعت أسيرة فى أيدى المسلمين وأنجبت عليّاً زين العابدين بن الحسين , فاعتبر الفرس أنفسهم أنسباء الحسين وأخوال علىّ زين العابدين, وتعصبوا للتشيع الذى يعتبر حتى الآن تشيع سياسة وتشيع عصبية لا عقيدة دينية.
ولما انفضت الشيعة عن الحسين , فى الكوفة واستشهد , دبت الغيرة والحقد فى قلوب المسلمين الذين رأوا فى ذلك امتهاناً لبيت الرسول الكريم فاتسع نطاق التشيع لآل البيت .
فالتاريخ لم يعرف هزيمة كان لها من الأثر لصالح المهزومين كما كان لدم الحسين , فلقد أثار مقتله ثورة ابن الزبير , وتكوين حزب التوابين الذين لم يكن لهم عقيدة دينية ذات طابع مميز عن جمهور المسلمين حيث خرجوا إلى قبر الحسين يعترفون بخطئهم ويبكون ثم توجهوا لقتال الأمويين فى عين الوردة قرب الرقة .
لقد رأوا أنهم غرروا بالحسين حينما استدعوه ثم تخلّوا عنه , فكان هدفهم الثأر له فكان طابعهم عاطفياً نابع من الندم والمسئولية عن قتل الحسين .
لقد تشيع البعض حباً وتكريماً وتعلقاً بأهل البيت لأنهم أهل بيت النبى وعترته وأحبابه وخاصة من رأى ما حلّ بهم من تعذيب وتشريد وقتل, فتعلق حباً وأسى وشفقة ورحمة , فهذه المحن جعلت كثير من المسلمين يتشيعون لهم ويتعصبون .
فلما قتل الحسين 61هـ حارت فرقة من أصحابه وقالوا : قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين , فإن كان ما فعله الحسن من موادعة حقاً واجباً , فما فعله الحسين من محاربة باطل غير واجب , وإن كان ما فعله الحسين حقاً واجباً فقعود الحسن باطل , فشكوا لذلك فى إمامتهما ورجعوا فدخلوا فى مقالة العوام .
لقد استطاع الحسين أن ينجح فيما لم ينجح فيه أبوه أو أخوه من قبل , إذ نجح فى إدانة أعداء أبيه من أهل الشام , وخاذليه من أهل العراق على السواء , فأبوه قتل بسيف خارجى , وأخوه سلّم الأمر لمعاوية , وقتل الحسين بعد أن استدعاه أهل العراق , فتركوه فى العراء تحت رحمة أعدائه , فتبلور الشعور بالإثم على نحو لم يستشعروه من قبل
فى عهد علىّ والحسن , و اشتعل فى نفوسهم حزن مستعر لم يخمد لهيبه إلى اليوم , ولم تسكن عبرتهم , ولعلها لن تسكن .
ولم تكن حركة التوابين هى وحدها التى عبّرت عن الندم ,إذ لم تعرف فى تاريخ الفرق قوة للإثم قد بلغت فى عقيدة ما بلغته فى التشيع .
وهم يجدون فى هذا العذاب كفّارة وتوبة وهم مقيمون على الحزن يستعذبون طعمه ويرهقون أنفسهم بالإصرار على إحياء ذكرى خطيئة الذين ذهبوا بإثم سفك دم الحسين .
لقد استطاع الحسين أن يجعل الذين لم يأبهوا لمقتل أبيه ولم يعبأوا للذل الذى تركهم أخوه يذوقونه تحت رحمة الأمويين , استطاع وإن كلّفه ذلك حياته أن يجعل الذين خانوا أباه وغدروا بأخيه فى حزن مقيم وعبرة لا تسكن, وندب لا يذهب مهما طالت السنون وانقضت القرون, كما استطاع أن يركز جملة من السخط والكراهية على الأمويين بعد أن كادت تصبغ على خلافتهم صفة شرعية بعد عام الجماعة .
لقد أحاط الشيعة استشهاد الحسين بهالة من القداسة لم يصل إليها شهيد فى الإسلام , وصار البكاء بعد إشهار السيف هو الرابطة بين الشيعة وآمالهم فى إعادة الحق إلى نصابه .
و يختلف موقف الحسن من معاوية عن موقف الحسين من يزيد , فمعاوية يختلف عن يزيد من حيث النشأة والصحبة والتأدّب , حتى من حيث الأعوان , فأعوان معاوية ساسة وذوى مشورة , وأعوان يزيد جلادين .
فالحسين كان عازماً على عدم مبايعة يزيد , فلم يكن حين خرج إلى الكوفة يطلب الدنيا أو الجاة أو ساعيا وراء الخلافة لذاتها , بل كان يريد أن يقيم أحكام الله التى أُريد الخروج عليها بشكل حتمى , فكان بذلك مستجيباً لسلطان الإيمان .
أقام عليهم الحسين الحجة حين عرض عليهم الاختيارات الثلاثة , وترك لهم كل الأعذار التى تبرر إعفاء أنفسهم من سفك دمه .
وأقام عليهم الحجة مرة أخرى حين لم يبدأهم بالقتال , ولكنهم بدءوه بعد أن حرموه الماء , وأسرفوا فى التنكيل بالمقتولين , ولم يراعوا حرمة أهل البيت .
لقد زلزل مقتل الحسين أركان دولة بنى أميّة , فأتى عليها من القواعد .
وفى محاولة لفهم البواعث النفسية لحركة الحسين يجب أن نعى أنّ بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة , ولا بالبيعة التى يضمن لها الدوام.
والمسألة الدينية فى نفس الحسين مسألة هامة , فالحسين طلب خلافة الراشدين , وكان الصراع بين الحسين ويزيد أول تجربة من قبيلها بعد عهد النبوة وعهد الخلفاء الأولين , قد بذل فيها الحسين روحه , وطبيعة الشهادة موكلة ببذل الحياة لما هو أدوم من الحياة فهو أبو الشهداء .

فخروج الحسين كان أمراً يتصل بالعقيدة أكثر مما يتصل بالسياسة والحرب , وقد أراد الحسين أن يصلح كثيراً من مسائل العقيدة بعد أن اختلّت الموازين أثناء خلافة معاوية , فمعاوية كان يدعم ملكه بالقوة بالإضافة إلى أيديولوجية تمس العقيدة فى الصميم , فلقد كان يعلن فى الناس أنّ الخلافة بينه وبين علىّ قد احتكم فيها إلى الله , وقضى الله له على علىّ , وكذلك حين طلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز وأعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من الله , وهكذا كاد يستقر فى أذهان المسلمين أنّ كل ما يأمر به الخليفة قضاء من الله قد قُدر علىالعباد.
وأبداً لم يكن فشل الحسين عسكريّاً بعيداً عن ذهنه , وقد كان يقدر الموت فى خروجه أكثر مما يقدر النصر الذى عز على أبيه مع شجاعته , وعلى أخيه مع كثرة أتباعه , وظهر هذا فى نصح الناس له فى مقبل الخروج .
كان اصطحاب الحسين لأهله ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه , بما لا يبرره دين ولا وازع .
وهى عادة عربية فى البعوث التى يتصدى لها المرء متعمداً القتال دون غيره , فضلاً عن البعوث التى تشتبك فى القتال , وقد تنتهى بسلام .
وهى عادة عربية عريقة , يقصدون بها الإشهاد على العزم وصدق حجة فى يديه , ويجمع على خصومة أقوى حجة تنقلب عليهم إذا غلبوه وأخفق فى مسعاه , فتنقلب الآية فى حالة الخذلان فينال المنتصر من الغضاء والنقمة على قدر انتصاره الذى يوشك أن ينقلب عليه .
لقد خشى تعرضهم للإهانة وهو بعيد عنهم .

مقتل الحسين على هذه الصورة الشنيعة كان له أسوأ الأثر فى نفوس المسلمين فقد ازداد الشعور العدائى عند أهل العراق وفارس ضد بنى أمية كما نتج عن مأساة كربلاء تطور التشيع إذ كان قبل مصرع الحسين مجرد رأى سياسى فأصبح عقيدة راسخة فى نفوس الشيعة وظهرت طائفة التوابين .

التوابون
ظهرت طائفة من الشيعة أحسوا بالندم لتركهم الحسين يواجه الموقف وحده , ورأوا أنّ خير وسيلة للتخلص من الشعور بالذنب هى قتل من قتل الحسين , وتولى أمر هؤلاء سليمان بن صرد الخزاعى ومعه المسيب بن نخبة الفزارى وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدى وعبد الله بن دالى التميمى ورفاعة بن شداد البجلى , وسموا أنفسهم بالتوابين , وأخذوا يعملون فى الخفاء لتحقيق أهدافهم , فلما توفى يزيد 64هـ أظهروا دعوتهم , وكان لهم شأن مع خلفاء يزيد .
كان مروان بن الحكم قد تولى الخلافة بعد يزيد فأرسل عبيد الله بن زياد إلى أمر الكوفة , ولما توفى مروان وتولى عبد الملك بن مروان الذى أقر عبيد الله بن زياد على ولايته .
ففى أول عهد عبد الملك بن مروان (65 – 86 هـ) استقر رأيهم على الخروج من الكوفة لمحاربة عبيد الله بن زياد الذى رحل إلى الشام ليستعد للقضاء على نفوذ ابن الزبير فى الكوفة , فتجمعوا فى أول ربيع ثان 65هـ وعددهم أربعة آلاف فى النخيلة قرب الكوفة , وتوجهوا إلى كربلاء حيث قضوا يوماً وليلة عند قبر الحسين, واعترفوا بخطيئتهم , وأخذوا العهود على أنفسهم وهم يبكون ثم ساروا إلى عين الوردة وعسكروا فيها , فكان الحال بالنسبة لأهل الكوفة أنهم أرادوا أن ينتقموا من أنفسهم لأنهم خذلوا مسلم ولم يدافعوا عن الحسين .
وفى يوم 22 من جمادى الأول التقى جيش التوابين مع جيش الشام فى عين الوردة , وهزموا هزيمة شنيعة وقتل قائدهم سليمان بن صرد , وكان المختار في الجيش، فقال : أبشروا إن سليمان قضى ما عليه، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إني أنا الأمير المأمون، وقاتل الجبارين، فأعدوا واستعدوا .
وتولى المختار بن أبى عبيد الثقفى زعامة التوابين , وهو شخصية غامضة , كان قد انضمّ لعلىّ بن أبى طالب , ثم رفض مبايعة الحسن ثم بايع مسلم بن عقيل فى الكوفة للحسين , وكان من الذين خذلوه , ثم سار إلى الحجاز يبايع عبد الله بن الزبير , وحارب بجانبه أثناء حصار مكة الأول على يد الحصين بن نمير السكونى 64هـ ثم ذهب إلى الكوفة يستميل شيعة بنى هاشم بها , وادّعى أنه يدعو لمحمد بن الحنفية من بعد الحسين , وأنّه أمينه ووزيره , وقد قوى مركز المختار عقب انضمام إبراهيم بن الأشتر النخعى إلى جانبه بالإضافة إلى فلول التوابين العائدين من عين الوردة .
وكان أكثر من استجاب له همدان، وقوم كثير من أبناء العجم الذين كانوا بالكوفة - وكانوا يسمون الحمراء - وكان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألف رجل .
وتوافى إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة قاتل بهم من بعث ابن مطيع والى الكوفة من شبث بن ربعى وراشد بن إياس, فهزمهم ومعه إبراهيم بن الأشتر وندب له ابن مطيع الناس , وبعث له عمر بن الحجاج والزبيدى وشمر بن ذى الجوشن ونوفل بن مساحق وهزمهم ابن الأشتر والمختار ودخل القصر وخطب فى الناس ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية فبايعه أشراف الكوفة .
وانهزم أهل الشام بقيادة عبدالله بن حملة الخثعمى , فرجع أهل الشام فأرجف الناس بالمختار .
وخرج أشراف الكوفة وشهروا السلاح , وقالوا للمختار : اعتزلنا فإنّ ابن الحنفية لم يبعثك . قال : نبعث إليه الرسل منى ومنكم .
وكفّ أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر, فلما وصل قاتلهم وأسر منهم خمسمائة و قتل كل من شهد قتل الحسين منهم فكانوا نصفهم , وأطلق الباقين .
ونادى المختار الأمان إلا من شهد فى دماء أهل البيت , فقتل عمر بن الحجاج الزبيدى وشمر بن ذى الجوشن بعد فرارهما , وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً , وكان سنة ست وستين وذلّ المختار على قتلة الحسين وقتلهم وحرقهم .
وقام بعزل عبد الله بن مطيع والى الكوفة , وجاء عبيد الله بن زياد من الموصل والتقى الجيشان عند نهر حازر الذى يصب فى دجلة فى صفر 67هـ .
وهَزم المختار عبيد الله بن زياد ومثل بجثته وبجثه الحصين بن نمير السكونى وغيرهم من أشراف الشام , وبالغ فى النقمة فقتل وأحرق ومزق وهدم الدور وتعقب الهاربين , وهكذا انتقم لمقتل الحسين .
ولم ينج من الانتقام واحد ممن أحصيت عليهم ضربة أو كلمة أو مدوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء .
قيل الذى بعث المختار على قتلة الحسين قول ابن الحنفية : يزعم المختار أنّ لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسى يحدثونه .
فلما سمع المختار ذلك تتبعهم وقتلهم .
وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكوا ابن الزبير ويوهمه أنه بعث الجيش فى طاعته ويستأذن فى بعث الجيوش إلى المدينة فكتب إليه ابن الحنفية بطاعة الله وتجنب دماء المسلمين .
ثم دعا ابن الزبير محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته إلى البيعة فامتنع فتركهم , فلما استولى المختار على الكوفة وأظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به ,
فاعتزم عليهم فى البيعة وتوعدهم , وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فندب الناس (ثلاثمائة ) ودخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف فى الحرم وينادون بثأر الحسين ورفض ابن الحنفية قتال ابن الزبير وخرج إلى شِعب علىّ .
ولم يشأ المختار أن يجاهر بعدائه لابن الزبير , وكان المختار قد وادع ابن الزبير فى الكوفة ليتفرغ لأهل الشام , ولكنه اضطر إلى ذلك الجهر بعد اعتقال ابنُ الزبير محمد بن الحنفية الذى يدعو المختار إليه فسيّر المختار قوة من عنده إلى مكة حيث استطاع إطلاق سراحه .
وكان لهذا العمل أثر سيئ عند ابن الزبير حيث أيقن أنّ المختار يخادعه فأمر أخاه مصعب بن الزبير والى البصرة بالقضاء على المختار , واستطاع مصعب هزيمته وقتله فى الكوفة فى رمضان 67هـ فى الرقيم .
فعبد الله بن الزبير لما نازع عبد الملك بن مروان فى الملك واستولى على بعض الأصقاع سار فى شيعة العلويين سيرة الأمويين حيث حبس محمد بن الحنفية و قتل المختار الثقفى وكثيراً من أتباعه.
ولما قتل المختار واستوثق أمر ابن الزبير بعث إليهم فى البيعة فكتب ابن الحنفية إلى عبد الملك , وخرج إليه فى الشام فلما وصل مدين وصله خبر مهلك عمر بن سعد فندم وأقام بأيلة ثم رجع إلى مكة ونزل شِعب أبى طالب فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف حتى حاصر الحجاجُ ابنَ الزبير,ولما قتل ابن الزبير بايع ابن الحنفية لعبد الملك ثم قدم الشام.
سار جيش عبد الملك نحو الكوفة بعد أن بايع بعض قادة مصعب بن الزبير حيث استطاع عبد الملك بن مروان مع مرور الوقت أن يغرى كبار قواد مصعب بولاية أصفهان , فانسحبوا ماعدا إبراهيم بن الأشتر, وخذل أهل العراق مصعباً حتى بقى فى سبعة أنفس, فقتل إبراهيم بن الأشتر ومصعب بن الزبير سنة 71 هـ , و دعا عبدُ الملك جندَ العراق إلى البيعة فبايعوه .
وبعث منها الحجاج بن يوسف الثقفى لقتال ابن الزبير 72هـ فى مكة , وانضم له بعض أتباع ابن الزبير وحاصر مكة ستة أشهر وضرب الكعبة بالمنجنيق, و لم يتعرض للمدينة و نزل الطائف .
وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليه منهم عشرة آلاف , فانكشف هو وأصحابه , ورفض الفرار, وقاتلهم ابن الزبير حتى قتل .
وبايع أهل مكة الحجاج وسار إلى المدينة وأساء إلى أهلها وقال : أنتم قتلة عثمان . وختم أيدى جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة .
وهدم الحجاج بناء الكعبة الذى بناه ابن الزبير وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذى أقره النبى صلى الله عليه وسلم . وفعل الحجاج فى الشيعة الأفاعيل حتى خشى الناس أن يسمو أبنائهم أسماء أهل البيت .

ويمكن التواصل على البريد الإلكترونى alraia11@yahoo.com
___________________
أهم المراجع التى يمكن الرجوع إليها فى الموضوع :
1- د. عبد المنعم النمر الشيعة المهدى الدروز
2- محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري لسان العرب
3- حيدر حب الله مجلة المنهاج العدد 37
4- الإمام محمد أبو زهرة تاريخ المذاهب الإسلامية
5 - شرح نهج البلاغة
6- موسى الموسوى الشيعة والتصحصح
7- أحمد أمين فجر الإسلام
8- الحسن النوبختى وسعد القمى فرق الشيعة
9- د. عبد المنعم الحفنى موسوعة الفرق الإسلامية
10- د. طه حسين الفتنة الكبرى علىّ وبنوه
11- د. مصطفى الشكعة إسلام بلا مذاهب
12- د. نادية حسنى صقر السبئية
13- عبد القاهر البغدادى الفرق بين الفرق
14- هادى العلوى وعلاء اللامى مجلة العصور الجديدة العدد 16
15- ابن كثير الدمشقى البداية والنهاية
16- ابن جريرالطبرى تاريخ الرسل والملوك
17- تاريخ ابن خلدون
18- ابن تغرى بردى النجوم الزاهرة
19- عثمان الخميس حقبة من التاريخ

الخميس، 17 ديسمبر 2009

لمسة حنين

تعتبر الفترة التى قضيتها كمدرس فى مدرسة صالح الشرنوبى الإعدادية بنات ببلطيم فترة خصبة فى حياتى كمدرس , فلا شك أن خبراتى زادت بصورة كبيرة , وتعاملت مع طالبات على مستوى راقى من حيث الناحية العلمية والخلقية , أضف إلى ذلك الشخصيات العزيزة التى تعرفت عليها عن قرب من السادة الزملاء سواء كانوا إدارة أم مدرسين أم أخصائيين أم إداريين , وهذه بعض الصور التى تجمعنى مع بعضهم حتى أتمكن من تجميع صور لهم جميعا فأنا أعتز بهم جميع .


مع الأستاذ عادل الطبجى والأستاذ جمال هلال



مع الأستاذ زكى يوسف والأستاذ محمود سلامة


مع الأستاذ أحمد العبادى والأستاذ شريف جلو



مع مجموعة من الزملاء فى اجتماع عام فى المدرسة


مع الزملاء فى المكتبة وما أكثر مناقشاتنا


مع صاحب المجهود الوافر الأستاذ راجى محروس


صورة تذكارية فى خلفية المسرح المدرسى فى المدرسة أمام جدارية بلطيم فى عيونى التى تتكون من بعض الصور التى أردت بها تسجيل صامت لبعض ذكرياتى فى أرجاء بلطيم المختلفة وقد صمم هذا التصميم المتداخل الأستاذ حمدى عزام

مع الأستاذ إبراهيم الأجرود والأستاذ حمدى عزام


مع الأستاذ حمدين الشيخ والأستاذ أحمد عبده

نشأة الصهيونية

لم تولد الصهيونية بمعزل عن الأحداث الأوربية المتلاحقة ولا بمعزل عن التغيرات الداخلية فى الجماعات اليهودية , فبعد موت شبتاى زيفى ظهر تلميذه فرانك فى بولندا ليقود انشقاقاً خطيراً ضد أحبار التلمود معلناً أن التلمود يمثل الكذب و الخداع , و أن يسوع هو المسيح , و دعا أتباعه إلى قبول عمادة الكنيسة , فاعتنق آلاف منهم الديانة المسيحية .
و فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر قامت حركة الحسيديم فى بولندا و انتزعت القيادة من الأحبار , و غيرت من طبيعة الاعتقادات اليهودية , فلم يعد الحسيديم ينتظرون مجئ المسيح تاريخياً و إنما الخلاص يتم للأفراد الذين يستطيعون بسبب صلاتهم و تعبدهم إدراك النور السماوى , واستمرت قيادة الحسيديم إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية التى تمكنت فى بداية القرن العشرين من فرض قيادتها على غالبية الجماعات اليهودية فى العالم , ففكر الحسيديم جعلهم أقرب للمسيحية من أحبار اليهود , و ظهر على الأفق فى منتصف القرن التاسع عشر أن الديانة اليهودية توشك أن تذوب و تتلاشى داخل الكيانات المسيحية و الإسلامية السائدة فى العالم , فإذا لم يكن اليهود شعباً مختاراً فما الداعى للعزلة عن باقى البشر , و كان هذا هو الوقت الذى ظهرت فيه الحركة الصهيونية لإنقاذ الموقف عندما أصبحت فكرة الشعب المختار وحدها هى جوهر الاعتقاد عند الحركة الجديدة .
وواكب هذا التغير داخل الجماعات اليهودية ظهور الرأسمالية المحلية فى شرق أوربا مع بداية القرن التاسع عشر ثم ظهور الدولة القومية و النظام المصرفى الحديث , و وجد أعضاء الجماعات اليهودية أنفسهم بلا دور اقتصادى أو إنتاجى و بالتالى كانوا عرضة للاضطهاد مما أدى إلى زيادة حدة التفاقم للمسألة اليهودية و زيادة هجرتهم إلى الغرب الأوربى , و قد بذلت الحكومة الروسية و النمساوية جهوداً شتى لتحويل اليهود إلى قطاع اقتصادى منتج عن طريق فتح أبواب مهنة الزراعة أمامهم ,و ساهم مليونيرات الغرب من اليهود مثل هيرش و روتشيلد فى هذه الجهود لأن هجرة اليهود إلى غرب أوربا كانت تسبب لهم الحرج الشديد , كما كانت تهدد مواقعهم الاقتصادية والحضارية التى اكتسبوها عن طريق الاندماج .
وبدأت روسيا عملية تحديث اليهود و التى لم يكتب لها النجاح بسبب فشل الحكومة فى توفير الأرض الزراعية لليهود , و امتلأت المدن الروسية بملايين اليهود الذين يعيشون تحت ظروف اقتصادية قاسية حيث أن استجابة اليهود لتعثر التحديث قد تمثلت فى الهجرة الداخلية حتى عام 1870م ثم تحولت إلى الهجرة الخارجية والانضمام إلى المنظمات الثورية , ولجأت روسيا إلى القمع,وربطت عملية إعتاق اليهود بمدى تحولهم إلى عناصر نافعة منتجة, وكانت عملية اغتيال ألكسندر الثانى عام 1881م و هو قيصر التحديث على يد شباب ثورى بينهم يهودية ملحدة تعبيراً عن المشاكل البنيوية العميقة فى روسيا, وأعلن فشل سياسة التسامح مع اليهود , و أصدرت قوانين مايو التى طرد اليهود بموجبها من موسكو عام 1891م , و طرحت المسألة اليهودية على العالم الغربى بأسره فروسيا بدأت تصدر فائضها اليهودى إلى الجميع .
وقبلها كانت أوربا قد حلت مشكلة أعضاء الجماعات اليهودية منذ القرون الوسطى عن طريق طرد اليهود من انجلترا و فرنسا و ألمانيا و بعض أجزاء إيطاليا إلى أن استقر بهم المقام فى بولندا و روسيا , و من بقى من اليهود فى وسط و غرب أوربا و من جاءها من السفارديم و المارانو بظهور الرأسمالية القومية هم الذين عاصروا فترة علمنة الحضارة الغربية و سيادة الفلسفات المادية النفعية التى حكمت على اليهود من منظور المنفعة أواخر القرن الثامن عشر , و كان الدور اليهودى قبل تلك الفترة فى المجتمعات الغربية التقليدية حيوياً إذ اضطلع أعضاء الجماعات اليهودية بوظيفة أساسية فى المجتمع رغم أنها لم تكن جزءاً من العملية الإنتاجية الأساسية , و لكن بعد فترة الرأسمالية و العلمنة اهتزت الانعزالية و ظهرت حركة التنوير اليهودية الإصلاحية اللتان كانتا تحاولان تشجيع اليهود على الاندماج مع الشعوب ثم ظهرت الصهيونية , يقول اللورد يوستاس بيرسى :
" إن كلاً من الليبرالية و القومية فتحتا أبواب الجيتوهات على مصراعيها وقدمت حقوق مواطنة مساوية لليهود , انتقل اليهودى إلى داخل العالم الغربى وأدرك قوته و مجده , فاستغله و تمتع به و وضع يديه على المراكز العصبية الرئيسية لتك الحضارة و أدارها و استغلها ."

و حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر لم تكن غرب أوربا و أمريكا تضم جماعات يهودية كبيرة .
وفى روسيا بعد تعثر التحديث كان هناك أكثر من فكر سياسى يهودى يهدف إلى الخلاص من المعاناة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و أهمها :
1- جماعات دينية تدعو إلى انتظار المسيح المنتظر (تقوم على فكرة الماشيح التى تقوم على أن ملك سيأتى من نسل داود ليخلص اليهود من الأغيار و يعود بهم إلى وطنهم القومى و يقف بذلك شاهداً على عظمة اليهود و على ضعة الآخرين .
2- جماعات تتبنى الاندماج و الذوبان فى المجتمعات الأوربية القائمة ,و قد بذلت روسيا العديد من المحاولات لإدماج اليهود و توحيدهم داخلها و هناك محاولات قام بها اليهود أنفسهم للإندماج , غير أنه على ما يبدو أن القدر قد أحصرهم فى قوميتهم المستمر.
3 - جماعات تدعو للهجرة من المجتمعات العنصرية إلى المجتمعات الليبرالية حيث لا توجد مشاعر اللاسامية حيث تبنى المعادون لليهود مفاهيم عدم منفعة اليهود و هامشيتهم , و ضرورة التخلص منهم خلال القرن التاسع عشر .
4- جماعات تدعو للإنخراط فى الحركات الثورية على اعتبار أن الثورة الجذرية هى الخلاص للجاليات اليهودية , و هى ناتجة عن فشل التحديث .
5- الصهيونية التى ترى أن الخروج من المأزق يكمن فى العبور على جسر الدعوة القومية اليهودية .
و يعد تيودور هرتزل أحد أعظم اليهود الذين قدموا شروحات تميزت ببعد النظر فيما يخص فلسفة الوجود اليهودى و لم يخالطه شك فى وجود الأمة اليهودية .
و يحاول ليون سايمون فى دراساته إثبات أن الديانة اليهودية قومية و أن القومية جزء لا يتجزأ من الديانة .

فقد أشار عليزر بن يهوذا (1858-1922م) فى مقاله (المسألة الملتهبة ) إلى الأوطان القومية فى أوربا و أحقية اليهود فى وطن قومى و استعمال العبرية , و كان ليوبنسكر (1821- 1891م ) أول من دعا إلى اتخاذ فلسطين وطناً قومياً سنة 1882م , و وصف أعداء الساميين بأنهم مرض فى المجتمع مسيئ إلى الحياة كلها , و لقيت فكرته هوى من اليهود المتشددين و تأسست جماعة بيلو و أصبحوا آباء المستوطنين فى فلسطين و واضعى نواة الصهيونية المستعمرة و فى عام 1883م , و تبنى أوموند دى روتشيلد فكرة الإنفاق على الإستيطان لجماعة بيلو .
و فى عام 1882م ألف هيكلر الجرمانى كتاب ( إرجاع اليهود إلى فلسطين حسب أقوال الأنبياء ) .
والقليل من يهود روسيا و شرق أوربا هم الذين توجهوا إلى فلسطين بينما الأعداد الكبيرة من يهود اليديشية المتخلفين هى التى هاجرت إلى ألمانيا والنمسا, وحينما ضما أجزاء من بولندا انتقل اليديش إلى المدن الألمانية والنمساوية , و هؤلاء المهاجرون يشكلون التربة الخصبة للأفكار الصهيونية ويفرضون على يهود البلاد تبنى الصهيونية التوطينية حلاً لمشكلات اللاجئين .
و تبلورت الفكرة على يد هرتزل عام 1897 م و هو الذى تحول عام 1896م عن دعوته إلى الذوبان اليهودى فى المجتمعات الأوربية حيث كان مندمجاً منصهراً فى هذه المجتمعات و لكنه أصبح مهدداً بفقدان موقعه الطبقى ومكانته الاجتماعية و انتمائه الحضارى بسبب وفود الآلاف من يهود اليديشية, و شكل المنظمة الصهيونية التى تبنت البرنامج الصهيونى الذى جاء على نسق المؤسسات و البرامج القومية الإستعمارية المعروفة عندئذ .
لذا نجدها قد حملت معطيات القرن التاسع عشر الأوربى و حاجات التوسع الإمبريالى للرأسماليات الغربية و نقرأ فى مضامينها تأثير القوميات الإمبريالية الشوفينية العنصرية المميزة للوجود الأقلوى اليهودى فى المجتمعات الأوربية فأفرزت اللاسامية التى اتسمت بالاضطهاد و النفى للآخر و خاصة أنها الفترة التى ازدهر فيها الفكر المادى النفعى و ما نجم عنه من عنصرية أوربية تجاه الآخر .

والصهيونية نسبة إلى جبل صهيون جنوب بيت المقدس , و هو جبل مقدس عند اليهود لاعتقادهم بأن الرب يسكن فيه , و هدفها تحقيق الطموح اليهودى الذى يرمى إلى الاستيلاء على فلسطين و جعلها مركزاً للدولة اليهودية و إعادة بناء الهيكل .
والتى تعتنق فكرة العودة إلى فلسطين بعد ظهور المسيح المخلص الذى يقود الشعب إلى صهيون هى الصهيونية الطوباوية أو الصوفية , أما صهيونية القرن التاسع عشر تسمى الصهيونية السياسية تمييزاً لها عن الصوفية التى زرعت بذورها يوم دكت مملكة إسرائيل على أيدى الأشوريين عام 721ق.م ثم نمت بعد خراب أورشليم على يد نبوخذنصر عام 586ق.م , و الصهيونى هو اليهودى الذى يؤثر المعيشة فى فلسطين على غيرها من البلاد , و هو كذلك من يساعد اليهود مادياً و أدبياً ليقيموا فى فلسطين .
و بهذا تتميز الصهيونية الاستيطانية و التوطينية , فالصهيونية الاستيطانية تهدف إلى نقل اليهود من كل أنحاء أوربا أولاً ثم العالم ثانياً إلى فلسطين حيث يتم إبادة سكانها الأصليين أو طردهم أو استبعادهم .
بينما الصهيونية التوطينية أو صهيونية الغوث و المعونة و الهوية تترجم نفسها إ لى تبرعات مالية للمساعدة فى توطين اليهود الآخرين و إلى تأييد و ضغط سياسى من أجل اليهود .
فقد تلقفت الحركة الصهيونية الأسطورة الاسترجاعية و حولتها من أسطورة بروتستانتية إلى أسطورة يهودية فالعقيدة الاسترجاعية تجعل من اليهود جماعة استيطانية .
فالصهيونية ترى الشعب اليهودى يقف على هامش التاريخ غير اليهودى ولا يساهم فيه كثيراً , وتحولت إلى فكرة الشعب العضوى المنبوذ لذا لا يمكن تحقيق القومية اليهودية فى أوربا و إنما فى فلسطين , وكان يشار إلى اليهود باعتبارهم مادة بشرية يمكنه الاضطلاع بدور ريادى حدودى مفيد للحضارة الغربية

وهرتزل فى صياغته للصهيونية يؤكد أن الشعب العضوى المنبوذ لا ينبذ بسبب أنه شعب مقدس مكروه من الأغيار فى كل مكان و زمان بسبب قداسته أو بسبب تركيبه الطبقى غير السوى أو لأن هويته الإثنية العضوية لا يمكن أن تتحقق إلا فى أرضه أو لأنه شعب ليبرالى عادى يود أن يكون مثل كل الشعوب و خصوصاً الشعوب الغربية.
والهدف من النقل إصلاح الشخصية اليهودية و تطبيعها و تأسيس دولة اشتراكية أو استجابة للحلم الأزلى فى العودة أو تأسيس دولة علمانية تكون مركز روحى و ثقافى ليهود العالم و بهذا يريد هرتزل تحويل اليهود من طبقة إلى أمة , وعمل على وضع صيغة تجذب الصهاينة الإثنيين العلمانيين والدينيين و العماليين و السياسيين بالإضافة إلى العواصم الغربية و الصهاينة التوطينيين و العلمانيين الذين لا تهمهم الإثنية الثقافية , و هؤلاء العلمانيون اللادينيون أعادوا تعريف الهوية اليهودية تعريفاً يؤكد الجانب القومى بدون الدينى إلا بقدر التعبير عن القومية اليهودية و ذلك مقابل التيار الدينى داخل الحركة الصهيونية الذى يريد الدين و القومية شيء واحد , و أن الهوية اليهودية هوية قومية دينية .
وقد أجاد هرتزل التعامل مع كل الفرقاء داخل الحركة الصهيونية و التى عملت على إعادة تعريف اليهودى تعريفاً يتفق مع وضعهم الجديد فى الغرب بعد ظهور الدولة القومية العلمانية و عصر الإعتاق و سقوط الجيتو .
و ترى الصهيونية أن وجود اليهودى خارج فلسطين فى الشتات حالة شاذة تسبب شذوذاً للشخصية اليهودية فيقول نحمين سيركين : " الحياة فى المنفى خلقت نوعاً من عدم الاتزان فى شخصية اليهودى " .
والتطبيع عند الصهيونية هو العملية التى يتخلص اليهودى من خلالها من أرض المنفى أو الشتات خارج الوطن القومى و التى تتمثل فى استجداء الأغيار و الاعتماد السياسى عليهم و ازدواج الولاء فعليهم أن يتحولوا إلى شعب ينتج و يسيطر على مراحل العملية الإنتاجية و مصيره الاقتصادى , و طرح المطلق الدينى مثل الشعب المختار و الأوامر و النواهى .

وكان للصهيونية العمالية الاشتراكية دور كبير فى عملية التطبيع حيث ترى أن تحريم ممارسة اليهود للزراعة فى شرق أوربا و روسيا أدى إلى معيشتهم فى المدن بصفة أساسية كما أن العمال حرم عليهم القيام بكثير من الحرف فأصبحوا ينتمون إلى البروليتاريا الفقيرة , أما أغنياء اليهود فيشتغلون بالتجارة و الربا , و بصفة عامة أصبح دور اليهود فى المجتمعات المختلفة هامشياً والحل هو إقامة دولة يهودية .
لقد قام المفكرون الاشتراكيون بتجريد اليهود من سياقهم و نظروا إليهم بوصفهم عنصراً هامشياً غير منتج يتركز فى التجارة و الأعمال المالية و يوجد علاقة بين اليهود و الرأسمالية فهم جماعة بشرية غير سوية و غير طبيعية والحل ضرورة تخلصهم من هويتهم المتخلفة الخسيسة الأنانية (البرجوازية أو الرأسمالية ) و تحويلهم إلى عناصر منتجة و دمجهم فى المجتمع أو تأكيد هويتهم و توطينهم فى فلسطين داخل مجتمع تعاونى اشتراكى و هذا هو الحل الصهيونى الذى يقوم على افتراض أن الجماعات اليهودية عنصر حركى مستقل بذاته غير متجذر فى الحضارة الغربية يستحق البقاء داخلها إن كان نافعاً و يجب التخلص منه إن انتهى النفع عن طريق نقله للخارج و النقل يتضمن خلق وظيفة جديدة له .
لقد كانت الصهيونية نتاج الردة الفكرية الرجعية التى أعقبت إخفاق حركة الاستنارة اليهودية (الهسكلاه) و هى تمثل فى الوقت نفسه رد الفعل السلبى لفشل الرأسماليات الأوربية فى حل المسألة اليهودية فى بلدانها عن طريق وضع اليهود على قدم المساواة مع غيرهم من مواطنى هذه البلدان و تقضى على مظاهر تخلفهم و تدينهم الاجتماعى و الثقافى من ثم فالصهيونية هى التجسيد الحى للهزيمة .
ورغم أن الصهيونية قدمت نفسها باعتبارها الحل الأمثل للمسألة اليهودية و المنقذ من الاضطهاد لجموع اليهود فى العالم إلا أنها لم تحاول تجاوز الأوضاع التى أدت إلى ما يعرف بالمسألة اليهودية و اقتراح حلول جذرية لها بل كان
الحل الذى قدمته متسقاً تماماً مع طبيعتهاً الانهزامية , فالاضطهاد الذى يتعرض له اليهود فى أوربا لا يواجه بالثورة عليه بل بإخلاء هذه المجتمعات من اليهود

عن طريق تهجيرهم و توطينهم فى إحدى المناطق خارج أوربا و انعزالية الجيتو و تخلفه لا يحل بانفتاح اليهود على الحياة الإنسانية الطبيعية بكل رحابتها وباندماجهم فى الشعوب التى يعيشون بينها بل يتمثل الحل فى خلق جيتو أكبر حجماً و أشد عزلة و عدوانية يسمى الدولة اليهودية .
أما تدهور الأحوال المعيشية لفقراء اليهود فلا يجب أن يدفعهم إلى الانخراط فى النضال من أجل اجتثاث جذور الاستغلال الطبقى و الاجتماعى الذى هو أساس بؤسهم بل على النقيض من ذلك تدعوهم الصهيونية لممارسة هذا الاستغلال ضد شعب آخر .
وترى الصهيونية التصحيحية أن معاداة اليهود و فشل الاندماج هما اللذان أديا إلى ظهور حركة القومية اليهودية , فالمسألة اليهودية هى مشكلة الفائض السكانى غير القادر على الاندماج فى أى مجتمع و ليست مشكلة اليهودية كدين.
و هرتزل يؤكد أن أعداء اليهود فى أوربا هم الذين جعلوا اليهود شعباً واحداً بدون موافقتهم و رغم أنفهم .
واستطاعت الحركة الصهيونية تحويل المقولة الدينية أرض إسرائيل (آرتس يسرائيل ) إلى مفهوم سياسى بادعاء أن هدف المشروع الصهيونى هو استعادة أرض إسرائيل التى كانت مستقراً للشعب اليهودى , و أصبحت الصهيونية هى الجانب السياسى و القومى لليهودية , و لكنها بداية جعلت لفظ يهودى مقتصراً على اليهود البيض الأشكيناز , و محاولات الاستيطان الصهيونية كانت تستهدف أساساً تجنيد اليهود الغربيين لا الشرقيين رغم أن تجنيد الشرقيين فى المستعمرات الزراعية كان أكثر سهولة و يسراً .
وسيطر صغار المفكرين الصهاينة الذين لا يتمتعون بأية آفاق فكرية فسيحة أو رؤى تاريخية عميقة على قيادة الجماعات اليهودية ,و أحجم معظم كبار المفكرين اليهود عن الانضمام إلى الحركة الصهيونية .

وتبقى الصهيونية التصحيحية أكثر تيارات الصهيونية واقعية و اتساقاً مع جوهر الفكرة الصهيونية حيث نادى جابوتنسكى بتثبيت دعائم الاستعمار الاستيطانى فى فلسطين عن طريق الهجرة التى تستند إلى دعم قوة استعمارية كبرى , و نادى بتأسيس تنظيمات عسكرية صهيونية لتأسيس الدولة بالقوة , وأصر على الدعم الاستعمارى للمشروع الصهيونى و الاعتماد على الإرهاب لفرض الأمر الواقع .
ويؤخذ على الزعامة الصهيونية أنه لم يكن واضحاً أمامهم ما ينبغى أن تكون عليه طبيعة الدولة الإسرائيلية , فقد نظر القادة هيرتزل و جابوتنسكى
وبن جوريون إلى الديانة اليهودية نظرة عداء بدرجات متفاوتة و جمعهم أن الدولة ستكون علمانية فما أرادوا إنشاء طائفة دينية يهودية إقليمية ذات استقلال سياسى بل كان إما إقامة أمة طبيعية كسائر الشعوب أو هجرة جميع اليهود إلى فلسطين أو فصل اليهود فى فلسطين عن الشتات اليهودى و تحويل الدولة العبرية إلى وحدة قومية منفصلة و مميزة تماماً , و لكن فكرة أمة كسائر الأمم تلاشت بسبب ارتباط الأحزان الصهيونية بمصادر التمويل التابعة للشتات .
و آمنت الصهيونية بالتقسيم الحلولى لليهود إلى يهود يقفون داخل دائرة القداسة و أغيار يقفون خارجها , فهو يضع اليهودى فوق التاريخ و خارج الزمان , ويرون كل شيء على أنه مؤامرة موجهة ضدهم أو على أنهم موظفون على خدمته فيصبح كل البشر أشرار مدنسين يستحيل الدخول معهم فى علاقة ويصبح من الضرورى إقامة أسوار عالية تفصل بين من هم داخل دائرة القداسة و من هم خارجها لتعويض النقص الذى شعرت به فى المجتمع الإقطاعى الأوربى فإنها نظرة استعلاء إلى مجتمع الأغلبية , فاليهود فى رأيهم شعب مختلف عن بقية الشعوب التى يمكن الاندماج فيها .
وهناك تقسيم صهيونى آخر يقتصر على الجماعات اليهودية و ينكر واقعها الحضارى التركيبى التجميعى و يطرح فكرة الهوية اليهودية العالمية الواحدة ومن ثم تتم عملية تسمية و تصنيف الواقع من ذلك المنظور التوحيدى فهناك
مصطلحات ( يهود الدياسبورا – يهود المنفى – الشعب اليهودى ) و هى
جميعها تفترض الوحدة و التجانس بين اليهود و لكن يتضح العكس بمجرد وصولهم إلى إسرائيل حيث يصنفون حسب أماكن قدومهم و تتحدد مكانتهم حسب ذلك .
وعن الصهيونية يقول أرنولد توينبى أنها ظاهرة أثبتت أن الخصائص اليهودية التى طالما ألصقها المسيحيون منذ زمن بعيد باليهود المقيمين بين ظهرانيهم هى حصيلة الملابسات الخاصة التى صاحبت تشتتهم فى أنحاء العالم الغربى و لا ترجع إلى تلك الخصائص إلى أية خلة عنصرية خاصة موروثة , و من تناقض الصهيونية أنها تبذل جهدها الشيطانى لتشييد صرح جماعة يهودية لحماً و دماً برحت تعمل بنفس القدر من النشاط لانخراط اليهود فى عالم غربى مثلما دأب اليهودى الفرد على التطلع إلى أن يصبح برجوازياً غربياً يهودى العقيدة , برجوازياً لا دينياً , و هى بنبذها تقاليد التشتت اليهودى جملة لتقيم أمة جديدة مستقرة على الأرض على غرار ما فعله الرواد البروتستانت المحدثون من المسيحيين الذين أقاموا الولايات المتحدة الأمريكية و اتحاد جنوب إفريقيا وأستراليا و نيوزيلند , فهى بهذا تريد دمج اليهود فى وسط أممى .
___________________________________________
أهم المراجع التى يمكن الرجوع إليها :
أحمد عثمان تاريخ اليهود
د.عبد الوهاب المسيرى الصهيونية والعنف
د.عبد الوهاب المسيرى الجماعات الوظيفية
هنرى فورد اليهودى العالمى
د.عبد الوهاب المسيرى من هو اليهودى
د.عبد الجليل شلبى اليهود واليهودية
د.محمد سيد طنطاوى بنو إسرائيل فى القرآن والسنة
طاهر شلش التطرف الإسرائيلى
محمد هشام الفلسطينيون عبر الخط الأخضر
د.رشاد الشامى إشكالية الهوية فى إسرائيل
د.مصطفى النشار فلاسفة أيقظوا العالم