الخميس، 4 نوفمبر 2010

القضية الفلسطينية وأزمة المنطق

منذ قرون عديدة عرف الإنسان المنطق سعياً منه للتوصل إلى قواعد التفكير السليم الخالي من التناقض حتى يصل إلى الحقيقة التي تجعل حياة الإنسان ذات رسالة وذات مضمون يشعر معهما الإنسان بسعادة عندما يرى أفكاره ومعتقداته تتسق مع الواقع في تلائم و تناغم, و بهذا تنبع الحقيقة من داخل الإنسان بدلاً من البحث عنها و يكون الحق و الخير و الجمال مصدره الإنسان نفسه بدلا من اعتبارهم أهداف يسعى الإنسان للوصول إليها .

ولاشك أن الإنسان عبر القرون اكتسب الكثير من قواعد المنطق والتفكير وكان للرسالات السماوية دور كبير في تبصير الإنسان وإكسابه القدرة على التفكير السليم حتى وصل الإنسان في العصر الحديث ثم المعاصر إلى درجة متقدمة في البحث و التجريب جعلت الكون كتاب مفتوح بلا غموض وعقل الإنسان ناضج متشرب بالمنطق وقواعد التفكير وهذا هو الذي يجعل أي محاولة لخداع العقل الجمعي للبشرية ضرب من الوهم والخيال لن يكتب له النجاح مهما طالت محاولات الخداع .

ومن أهم محاولات خداع العقل الجمعي للبشرية كانت الحروب الصليبية من حيث الأهداف المعلنة والأهداف الخفية وما بينهما من فجوة كبيرة جعلت الأهداف المعلنة غير منطقية ، ونتفق جميعاً (نحن وأوربا ) أن أوربا في ذلك الوقت لم تكن في وضع حضاري يجعلها منطقية في رؤيتها.

ثم تأتى الهجمة الاستعمارية الشرسة من أوربا على الشرق عموماً باسم خادع مشتق من التعمير وشعارات تعد بنقل الحضارة إلى أرجاء الأرض المحرومة منها ,إذاً لقد تحضرت أوربا ورأت أن من واجبها نشر الحضارة في ربوع الأرض هذا شيء منطقي ولكن أن يتحول التحضر إلى سيطرة واستغلال واستعباد فإن هذا يناقض المنطق , فبم نلتمس للحضارة الغربية العذر هذه المرة وهم وحدهم دون غيرهم في ذلك الوقت أصحاب العلم والحضارة والمنطق .

ثم تأتى ثالثة الأثافي ؛ الحضارة الغربية تفشل في استيعاب جزء من شعبها حضارياً وتتجه إلى طردهم طرداً يبدو مخالفاً لحقيقة أمر الطرد فتستغل الأسطورة لعلاج الواقع , حيث استغلت أفكار اليهود الدينية التي تدور حول العودة إلى فلسطين وعملت على عودتهم , وزرعهم للعمل لصالحها ولصالح مشروعها الاستعماري للسيطرة على المنطقة العربية , وأيضاً تزرعهم وتطرد شعباً آخر , وتأسف لما حلّ باليهود في أوربا ولا تبالى أو تشعر بالذنب لما حلّ بالفلسطينيين بأرضهم , أىّ منطق في هذا الأمر؟!
أألمانيا الحديثة القائمة على العلم والعلمانية تشعر بوخز الضمير من معاناة ضحايا النازي فتمدهم بغواصات نووية ولا تشعر بوخز الضمير تجاه من تُوَجَه إليهم مدافع هذه الغواصات؟ ما هذا المنطق ؟

وأصبح عدم المنطقية شائع إلى الدرجة التي جعلتنا نعتقد بأن المنطق عملة ذات وجهين ترينا أوربا أحدهما وتؤمن هي بالوجه الآخر , وهذا يجعلنا أمام خيارين ؛ إما أن المنطق قد تعرض للسطو أو أصبح المنطق مغلوطاً.
والثاني أخف وطئاً من الأول وبه يمكن تفسير هذه الأحداث و الأحداث الأخرى مثل صدور حكم قضائي على المؤرخ البريطاني مايكل إيرفنج لأنه يوماً في الماضي شكك مجرد تشكيك في رقم ضحايا النازي من اليهود , وقد سبقه في هذا الاتهام كثيرون و منهم روجيه جارودى .
أإلى هذا الحد يتمتع الغرب بضمير حيّ؟ ضمير يوخزه ما فعله النازي في اليهود المساكين فيدفعوا تعويضات لعشرات السنين لضحايا النازي الأحياء وورثة الأموات وللكيان الذي اجتمع فيه ذويهم وبنو جلدتهم إن كان لهم جلدة ويسنّوا القوانين التي تحاكم من يتعرض مجرد التعرض ولو شكلياً لتفاصيل الإبادة أويشكك فيها وكأنها أصبحت مسلمة بديهية يصادر حق العقل في اختبار صحتها, هل هذا منطق ؟ أم هو وجه المنطق الذي يُشهر في وجهنا ويبقى الوجه الآخر في ضمير أوربا ؟

وما يدعو للعجب أيضا تصريح مملوء بالتصميم نطق به الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن يتعهد فيه بالحفاظ على بقاء إسرائيل وأمنها وهذا منطقي , أما غير المنطقي هو عينا الرئيس الأمريكي اللتان كانتا تتجهان لرئيسة منظمة الإيباك ( راعية المصالح الإسرائيلية في الولايات المتحدة الأمريكية ) يستجدى منها الشعور بالرضا عنه وعما يقول في مشهد مهين يجعلنا نتساءل : مَن يطلب المعونة مِن مَن؟ ومَن الراعي ومَن الرعية ؟
أإلى هذا الحد التقت المصالح ؟ فأمريكا تتحدى مشاعر شعوب المنطقة العربية والإسلامية بالدعم اللامحدود لإسرائيل فى كافة المجالات وهي التي تنخر فى عظام المنطقة, ورغم ذلك فالرئيس الأمريكى فى أشد الاحتياج لمساندة اليهود فى الداخل والإسرائيليين فى الخارج من أجل صندوق الانتخابات على الرغم من أن الولايات المتحدة تعتمد على البترول العربى اعتماداً كبيراً فأين المنطق فى هذه المعادلة ؟

وفى فلسطين مشهد العجب أكبر حيث تنتشر حول الحرم القدسى بعثات الحفريات منذ عشرات السنين بحثاً عما يمت بصلة للهيكل المزعوم الذى لا أثر له , ومحاولات لىّ عنق الحقائق التاريخية لخدمة المشروع الصهيونى من خلال المداخل التاريخية حيث يسعون لجعل اليهود مزروعين بأرض المنطقة منذ فجر التاريخ , فالصهيونية تريد حفر الماضى لإيجاد مبرر لوجودهم فى الحاضر , مما يدفعنا للبحث لمعرفة إلى أين ينتمى يهود اليوم ؟ إلى أىّ أرض ينتمى ذلك المستوطن المستولى على مزارع وحقول فلسطين ؟ وإلى أىّ ثقافة ينتمى ؟ وفى أىّ أرض نبتت هذه العقلية ؟ وما عوامل تكوينها ؟ ولماذا يعيشون فى الشرق وعقولهم وقلوبهم متعلقة بالغرب ؟

وهجراتهم الدائمة عبر تاريخهم سمة جوهرية فى طبيعتهم , فهم شعوب أوربية لأكثر من ألفى عام , سعوا وانتشروا فى أنحائها وأرجائها , قاتلوا وزرعوا , وتاجروا وصاهروا وانصهروا , ومنهم من تقوقع وانزوى , ومنهم من استقر واندمج , ومنهم من هُجّر وطُرد .
فيهود اليوم شعب أوربي خالص تقبلهم مجتمعهم أحياناً ولفظهم أحياناً أخرى لأمور تتعلق بسلوكياتهم وأخلاقهم وليس لعداء عنصرى , ووصل الأمر أن رأت أوربا علاجا لمشكلاتهم بأن يتم تهجيرهم إلى أرض بعيدة عنهم ليتخلصوا من مشاكلهم , وليكونوا أعواناً لهم فى منطقة يحتاجون فيها إلى أعوان يحققون مصالحهم ومآربهم .
وهنا تم إحياء الماضى الراقد فى هجاده منذ مئات السنين وتحقق للأوربيين واليهود تلاقى المصالح على أرض فلسطين بموقعها الواصل بين الشرق والغرب , وآسيا وأفريقيا , وأوربا وشرق آسيا , وبتاريخها الذى كان اليهود فى وقت من الأوقات يشكلون حلقة مفردة من حلقاته المتشابكة منذ أكثر من ألفى عام.

وصاحب ذلك ضعف الخلافة العثمانية وانشقاق وعصيان عربى على الخلافة أدى إلى وقوع فلسطين فى يد الانتداب البريطانى الذى سلّمها إلى اليهود الذين تعهدتهم الولايات المتحدة الأمريكية بالرعاية والحماية .

وكاد الأمر أن يلتبس علىّ , فعندما نتتبع اليهودى فى هجرته من فلسطين خلال العصر اليونانى والرومانى حتى عصر الإمبراطور هادريان, ثم انتشارهم فى العصور الوسطى فى غرب وشرق أوربا على مدى قرون عديدة , فمن اليهودى الذى سأسعى خلف تحركاته ؟ هل اليهودى الأصلى المهاجر أم اليهودى المتهود على يد نشطاء المبشرين اليهود فى العصر اليونانى أم يهود متحولون كلياً مثل الخزر أم يهود أوربيون اعتنقوا اليهودية؟ فاليهودي هو الذى يقول أنه يهودى باختلاف أصله كما هو متبع لتعريف اليهودى فى روسيا حديثاً ,ففكرة النقاء العرقى لليهود وأنهم ذرية يعقوب (بنى إسرائيل )التى لم تتعرض للخلط والتهجين على مدى قرون عديدة هى اعتقاد أثبت علماء الأنثروبولوجيا خطأه واستحالة صحته , وللدكتور جمال حمدان فى كتابه ( اليهود أنثروبولوجيا ) جهد واضح فى نزع استئثار اليهود بما يدعونه من السمات الجينية لبنى إسرائيل , فالعقل والعلم لا يستطيعان تفسير وجود يهودى أسود أو بملامح تترية وينتمى إلى ذرية إسرائيل .

وواقع الأمر يفرض علينا حقيقة واضحة تماماً وهى أننا عندما نطلق لفظ اليهود فى العصر الحديث فإن ذلك يعنى أننا نتحدث عن أقوام لا تنتمى بصلة لليهوديه كرسالة سماوية وصلت كمالها على يد سيدنا موسى , ولا تنتمى بصلة إلى الأقوام المعروفة باسم بنى إسرائيل , ولا تنتمى بصلة لتاريخ اليهود فى فترة السبى البابلى والعودة إلى القدس وهدم الهيكل والشتات, وإنما هم أقوام من ذرية يعقوب فى الأصل ولكنهم انتشروا فى الأرض وخالطوا الشعوب, واختلطوا بها وصاهروها واندمجوا معها على مختلف مستويات الاندماج , وهوّدوا من استطاعوا تهويده ,ولا يمكن إنكار واقعة تهويد مملكة الخزر .
فمن أين جاءت هذه الجماعات المهاجرة إلى فلسطين ؟ ولماذا جاءت ؟ وكيف كانت تعيش هناك ؟ وما مشكلاتها فى المجتمع الأصلى حتى يهجرهم من أرضه ؟ ويكونوا دولة لا تنتمى للمنطقة ولا لشعوبها تخدم المصالح الغربية الإمبريالية , تم زرعها فى جسد الأمة العربية الإسلامية , وفى قلب العالم القديم , وفى مركز حركة المواصلات الدولية.
وإذا عقدت مقارنة بين أحوال هذه الشعوب فى أوربا وأحوالهم تحت حكم العثمانيين المسلمين , والمسلمين فى الأندلس , تعرف كيف كانت أيامهم فى الأندلس والدولة العثمانية هى أروع فترات تاريخهم على الإطلاق .

وتأتى مسألة الدعم والمساعدة الأوربية والغربية لهذه الدولة لتمثل أوضح صور المنطق المغلوط , فالمساعدة والدعم كانا نظير ما تعرضوا له فى أوربا , فلماذا لم يساعدوا ويعوضوا المسلمين الذين خرجوا من الأندلس ؟ ولماذا يقف رئيس البرتغال ويعتذر لليهود عن محاكم التفتيش ولا يعتذر للعرب المسلمين ؟ ولماذا تشعر أوربا بالذنب تجاه اليهود ولا تشعر بالذنب تجاه الشعب الذى سيشرد كى يحلوا مشكلة اليهود الخاصة بهم ؟
ويهجرون شعباً يهجر شعباً أخر , ويتعاطفون مع المعتدى ولا يتعاطفون مع المعتدى عليه , وكأن الأمر لا يعنيهم بعد توظيف الخلفية التاريخية توظيفاً يرفع عنهم الحرج .

وقد كنت أعتقد أنه منطق مغلوط , ولكنى تيقنت أنه ليس منطق مغلوط بقدر ما هو خدعة واستخفاف بالعقول , فأوربا لن تستخدم منطق مغلوط وقد ظهر لديها من علموا العالم المنطق والفلسفة , ولكن واقع الأمر ينطق بأن ما حدث هو خداع وتزييف وتصدير للمشاكل وصناعة موضع قدم لهم بالمنطقة العربية فالأمر لا علاقة له بعقدة الذنب أو النظر بعين العطف أو الأسف لما تعرض له اليهود من اضطهاد , فالموضوع لا يخرج عن نقل فائض سكانى غير مرغوب فيه فى أوربا ,وتحويله إلى تابع لهم يقوم الأوربيون بحمايته مقابل أداء خدمات ومصالح لهم فى بقعة يشعرون فيها بالريبة والقلق والرغبة فى استحالة وحدتها .
ومن المحير أن انجلترا وهى التى قادت الحملة الصليبية الثالثة من أجل القدس قد احتلت القدس عام 1917 م بقيادة اللنبى الذى قال : ( الآن انتهت الحروب الصليبية ) من المحير أن تفرط فى هذه المدينة لليهود بهذه السهولة .

هل أراد الأوربيون تكرار ما حدث فى أسبانيا والبرتغال عام 1492م واعتقدوا أن تركيا ستقبل كما قبلت من قبل استيعاب اليهود ؟
أم أن اليهود أرادوا إقناع القوى الغربية بتبنى هذا الطرح الاستعمارى وتطويعه لمصلحتهم كما فعلوا مع الفرس بعد انتهاء السبى البابلى عندما أقنعوا كورش ومن بعده أرتخيشيا بمساعدتهم فى الرجوع إلى فلسطين مع ضمان الحفاظ على النفوذ الفارسى وأن يصبح اليهود موضع قدم للفرس فى المنطقة .

فالمشروع الاستعمارى الغربى المرتدى ثوب اليهودية فى فلسطين ,من حيث النشأة والتكوين , هو مشروع مرتبط بالسياسة الاستعمارية الإمبريالية الغربية ,وهذا يظهر فى أسباب اختيار فلسطين ,وتنفيذ المشروع , وسياسة الانتداب البريطانى وأثرها على تهويد فلسطين , والتمويل الغربى الاستعمارى للمشروع الصهيونى الذى يخدم أهداف الاستعمار وأطماعه بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التى ودورها الهام فى إنشاء ودعم الكيان اليهودى فى فلسطين , وهى الأخرى مكونة من هجرات واستبعادات أوربية , وصاحبة تجربة استعمارية تشبه تجربة استعمار اليهود لفلسطين , حين تخلصت من السكان الهنود الأصليين , وأراد يهود أوربا أن يحذوا حذوها مع الفلسطينيين وخاصة أن معظم جوانب حياة اليهود على مر العصور محاطة بسياج التعتيم اليهودى المقصود, الذى ضربوه حول أنفسهم بغرض تعمية العالم عن تاريخم وحاضرهم وطموحاتهم و أطماعهم .

وهذا جهد المقل بغرض توسيع دائرة الوعى العام تجاه قضية المسلمين الأولى .