الأربعاء، 22 أغسطس 2012

وداعا أيها الحلم المثالى

يخطئ من يظن أن جمال عبدالناصر كان ضد الفكرة الدينية ,
 فلقد كان مهتما ومقتنعا بقيمة الدين فى مشروعه المثالى ,
وسعى جاهدا أن يستثمره كجزء فى تكوين الكيان الكبير الذى بات يحلم به قبل سنوات من قيام الثورة ,
 وهذا الشعور بأهمية الفكرة الدينية جاء نتيجة هضم عبدالناصر لطبيعة الشعب المصرى
 وتكوينه الفطرى نحو التدين ,
 ولكن بعد التصادم بين رغبته فى استمرار العسكر فى الحكم وبين رغبة الكثيرين
 ( ومنهم من يمثل التيار الدينى كالإخوان المسلمين ) فى تسليم السلطة للمدنيين ,
 بعد هذا الصدام اتجه عبدالناصر إلى أن يجنب الفكرة الدينية جانبا فى هذه المرحلة لصالح الفكرة القومية ,وخاصة أن هذا يقدمه للغرب بعيدا عن منطقة الخلافة التى كانت حديثة الانقضاء وقتها ,
 ولم ينجح فى محاولات عديدة إلا فى جذب الشيخ الباقورى من التيار الإخوانى إلى مجاورته فى حكم العسكر .

ولا شك أن الحلم القومى الناصرى كان مثاليا , ولكنه حلم لم يكتمل ,
 إذ بدأ بتجنب الفكرة الدينية اعتمادا على القومية , وكذلك لم تتوفر له السواعد والعقول التى تقوم به ,
حيث لم يكن الضباط على قدر المسئولية والمهارة لإنجاح هذا المشروع الواعد , فقد أثبتت التجربة ضيق أفق العسكر وسطحية تفكيرهم عكس عبدالناصر القارئ والمثقف , فتشعر أن عبدالناصر لم يجد من يعينه على حلمه ومشروعه , حيث زاغت أعين رجاله على المكسب القريب المضمون ولم تطمح أنفسهم لما كان يطمح إليه عبدالناصر , ولعل هذه السمات الموجودة فى العسكر هى ما جعلت هتاف ثورة 25 يناير يكون ( يسقط يسقط حكم العسكر ) فقد خبرناهم وعرفناهم حادين غير مرنين , منظمين غير مغامرين , تقليديين غير ابتكاريين , يهتمون بالشكل دون المضمون , ينفذ الأمر دون إرادة منه .

كان عبدالناصر ينظر إلى خارج حدود مصر ( هكذا كان حلمه ) بينما رجاله وجل من حوله ينظرون إلى تحت أرجلهم وما يمكن أن يحصلوا عليه من مكاسب وامتيازات فى داخل مصر , فاطلقت يدهم فى الداخل بينما تفرغ عبدالناصر للمجد الخارجى كرجل مؤسس لحركة عدم الانحياز ولم لا وهو الرجل القادر على أن يتخذ موقفا وقرارا , وبدأت إسهاماته فى حركات التحرر الإفريقية والعربية ,وأرسلنا قوات إلى اليمن والكونغو , ومحاولات الوحدة العربية المتعددة , وعمليات التأميم لتوفير المصدر المالى الذى يغطى هذه الطموحات .

ولأن الحلم كان كبير فكان لابد من رجال فى الخارج , فاستضاف عبدالناصر صدام حسين بعد هروبه من العراق , ورأى عبدالناصر شبابه فى القذافى , وتربى على يديه القادة المستقبليين فى سوريا واليمن .

وجاءت حرب 67 كالصاعقة على الحلم المثالى الناصرى حيث تحول من التحليق فى الفضاء الرحب
 إلى التقيد بحدود البلاد المنقوصة وكيفية تحرير الأرض , وعمليات التطهير التى طالت مجلس قيادة الثورة وقادة الجيش والمؤسسات التى كانت تدير البلاد أثناء تحليقه فى الفضاء ,
فبدا عبدالناصر يتعرف على حاجات البلاد والعباد ويقف على مدى السوء الذى وصلت إليه البلاد على أيدى رفاقه الذين أخذ كل منهم منطقة يلعب فيها ويمارس عليها نفوذه وسطوته .

وه هو الموت يقبل على عبدالناصر ومازالت الأرض محتلة ولم تحرر مما زاد فى المرارة ,
 ولكن الرجل استطاع أن ينشر فكره فى العديد من البلاد العربية , وأثمر هذا الفكر بعد فترة ,
 فعلى عبدالله صالح تربع على سدة الحكم عقود فى اليمن , والقذافى تملك ليبيا بدون عقد ,
 وصدام صال وجال بالعراق فى مغامرات غير محسوبة , وسيطر الفكر القومى على سوريا عقودا .
وتشعر وأنت ترصد خريطة الثورات العربية الأخيرة وكأنها تترصد بقايا هذا الحلم الذى لم يكمله صاحبه
 ومنشئه , وكذلك تلاميذه , وكأن الثورات تقول أن هذا الحلم أخذ حظه من الزمن ولم يكتب لصاحبه أن يكمله , وأن وارثيه لم يهضموه فأكملوه بتشوه أساء إلى الأصل , ولكن فى الحقيقة هو الحلم لمثالى الذى لم يقيد له ما يكفى من الرجال ففات زمنه وأوانه والزمن لا يعود إلى الوراء ,
 فالزمن أصبح غير الزمن , والأحوال العالمية أصبحت غير الأحوال السابقة ,
 وأصبح الحلم فرصة ضائعة من الفرص التى تتاح للبشرية فتنجح أو لا تنجح هذا مرهون بالرجال , ولم يكونوا حول صاحب الحلم ,
 فوداعا أيها الحلم المثالى .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق