الجمعة، 7 يناير 2011

الإصلاح الكنسى واليهود

فى الفترة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر سيطرت البابوية على شئون الحياة فى الغرب
وهيمنت على الجوانب الدينية والاجتماعية والثقافية , وأصبح البابا يمثل المسيح على الأرض وساد الاعتقاد أن كهنة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية حصلوا على مناصبهم عن طريق السيد المسيح نفسه الذى أعطى بطرس الحق فى خلافته وهم خلفاء بطرس , بهدف إعطاء الكنسية الرومانية الكاثوليكية الحق الشرعى فى رئاسة العالم المسيحى ,
وادعت الكنيسة أنها فوق العقل وفوق الريبة والمساءلة , وأنها ورثت وحياً إلهياً ,
وأنها ممثل الله على الأرض الملهم المعصوم من الخطأ , وأن جرائمها كانت بإرادة الله مثل حسناتها وأعلنت وصايتها على العقل الأوربى وحددت له الإطار الذى يسمح له بالتحرك فيه فجعلت المصادر الرئيسية للعلم والمعرفة هى الكتاب المقدس وسير القديسين وقرارات المجامع الكنسية ,
وزرعت فى العقل الأوربى أن تفسير الكتاب المقدس هو حق للكنيسة ورجالها , وقام الباباوات والمجالس الكنسية باحتكار عملية تفسير الكتابات المقدسة ,
وأن فهم الكتب المقدسة يجب ألا يتم إلا فى وجود تفسير الكنيسة لها , وأى حقائق لا تستند إلى الكنيسة هى من صنع الشيطان , فالأرض ثابتة فى مركز الكون وتدور الشمس والقمر وبقية الكواكب حولها , وتبنت الكنيسة هذه النظرية لأنها تتفق مع ما ورد فى الكتاب المقدس من إشارات حول مركزية الأرض وتبنت أيضاً أن تاريخ الخلق 4004 ق.م والنهاية 4004 م حيث تقع حياة المسيح فى مركز الزمان.
وكانت محاكم التفتيش التى أسست عام 1231م تلاحق من ينشر نظريات أو معلومات لا تقرها الكنيسة وتسميهم المتهمين بالذندقة والهرطقة والشعوذة والسحر ,
ووضعت ما يعرف بفهرست الكتب المحرمة على المسيحيين , واعتبرت البابوية الرقابة على المطبوعات من أهم واجبات الكنيسة حرصاً على ألا يتأثر المسيحيون بالأفكار الفلسفية .

فالكنيسة سيطرت على عقول الملايين وتم إحراق الكتب والمخطوطات واختفت كتب الفلاسفة الكبار وأعمال الشعراء والمؤرخين وتم تزوير البعض الآخر ليتفق مع آراء الكنيسة مثل تسطح الأرض ومركزيتها وأن الإنسان ولد من الخطيئة , والكهنة يملكون حق الغفران , وحرمت طبع أى كتاب دون موافقة الكنيسة فى عهد البابا اسكندر السادس (1431 – 1503 م ) .

بدأ الإصلاح الكنسى مع برنجاريوس (999 – 1088 م ) ويوحنا فيدانزا الفرنسسكانى (1221-1274م) وتوملبس جاسكوين (1403 – 1458 م ), وجاءوا ينكرون حق الكنيسة فى إصدار التعاليم الدينية ويعلنون الرجوع إلى ما جاء فى كتبهم المقدسة فقط .
وكانت سيطرة الكنيسة بدأت من بداية القرن التاسع بالتحديد عام 800م وهو عام تتويج البابا لشارلمان فى روما, وإصدار الوثيقة المسماه (هبة قسطنطي) والتى سلم فيها الإمبراطور كافة سلطاته الإمبراطورية لأسقف روما .
وبدأت رحلة الإصلاح الفعلية مع ترجمة جون وايكليف الكتاب المقدس للإنجليزية لضمان نجاح الحركة ضد الكنيسة البابوية فى نهاية القرن الرابع عشر, وطبع جوتنبرج الكتاب المقدس عام 1456م وراجع أرازموس النسخة الإغريقية من العهد الجديد و تبين وجود اختلافات وأخطاء بينة مع إنجيل جيروم الذى تعتمد عليه الكنيسة .
وقد رفض الحاكم الساكسونى الولاء لبابا روما واتخذ مارتن لوثر مرشداً دينياً له عام 1512م, وانقسمت ألمانيا إلى كاثوليك وبروتستانت (محتجين) , فقد وجد فى نشاط لوثر فرصة للتخلص من نفوذ الكنيسة الرومانية ,
وترجم مارتن لوثر الكتاب المقدس إلى الألمانية لتصبح فى متناول الجميع , وكان مارتن لوثر قد استاء أثناء زيارته لروما لما شاهده من علامات الانحلال الخلقى و انعدام القيم الروحية السامية لدى رجال الدين هناك واعترض على بعض الاعتقادات والعادات الرومانية الكاثوليكية ومنها بيع صكوك الغفران ,
وتعتبر هذه بداية الحركة البروتستانتية واتهمته الكنيسة بالهرطقة وطالبت بمحاكمته عام 1518 م .

واعترض مارتن لوثر على تعاليم الكنيسة التقليدية عندما طالب بجعل التجربة الإنسانية الخاصة وليس الالتزام بتعاليم الكنيسة محوراً لفكرة الخلاص وهاجم صكوك الغفران وانعدام القيم الأخلاقية وانتشار الجهل وحب السيطرة على الأمور الدنيوية وجمع الثروة فى تصرفات الكهنة وأن الإيمان الحقيقى أهم من السلوك و المظهر الخارجى ,
ونادى بحق كل مؤمن فى تفهم النصوص المقدسة بنفسه , وكان يعتبر النظام البابوى نوعاً من الوثنية بسبب استخدام الصور والأعمال الفنية فى الكنائس واستعمالها كأصنام يسجد المصلون أمامها حيث وضعت الكنيسة جسداً يمثل المسيح فوق الصليب وصورة تمثل السيدة مريم وهى تحمل طفلها داخل أماكن العبادة فى مواضع الصلاة وصرح لوثر بإمكانية تعدد الزوجات فى بعض الظروف ,
وانتشرت دعوته فى ألمانيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر والدانمارك والسويد وشمال أوربا وأصبحت كنيسة مستقلة بعد أن انشقت عن الكنيسة الكاثوليكية , وفى عام 1525 م قامت ثورة الفلاحين فى ألمانيا وقد تأثرت بأفكار مارتن لوثر.
وفى عام 1534 م قطع هنرى الثامن ملك إنجلترا صلته بكنيسة روما , ونصب نفسه على رأس الكنيسة ووضع توماس كرانمر كتاب الصلوات ونظمت الملكة إليزابث عام 1561م وضع الكنيسة فى منتصف الطريق بين الكاثوليكية والبروتستانتية وأزاحت التوتر بهدوء, وفى ضوء هذه القفزات العظيمة الأثر على الأوربيين تيقن الذين طالعوا الكتاب المقدس مباشرة بدون وصاية الكنيسة أنه لا يوجد بالإنجيل ما يفيد بأن الله قد منح باباوات الكنيسة ولا الملوك أى سلطات وأن كل القرائن التى اعتمدوا عليها كانت مزورة ,
وفسروا الدين تفسيراً يتعلق بالملكية ولا يقوم على القدسية فحسب والمجتمع يدير شئونه بنفسه ولا يتلقى الأوامر والنواهى من البابا ونشأت دعوة جديدة لحياة تتبع أصولاً سهلة فى التعميد والزواج و العبادات .

ويعتقد أن البروتستانت أخذوا مبدأ قراءة الكتاب المقدس مباشرة والإيمان بما فيه مباشرة من المسلمين أثناء الحروب الصليبية , وأيضاً الا يتوسط البشر بين البشر وبين الله تعالى .
لوثر كان يوجه دعوته إلى المسيحيين واليهود سوياً مما جعل الكنيسة الكاثوليكية تعتبره نصف يهودى , كما رحب به اليهود فى البداية بسبب هجومه على كنيسة روما , وذهب البعض إلى اعتبار مذهبه الإصلاحى يمثل عودة إلى الاعتقادات اليهودية ومع هذا رفض اليهود دعوته ولم ينضموا إليه .
فأصبح يهاجم عناد اليهود الذين يتمسكون بتفسيراتهم القديمة للتوراة ويرفضون الاعتراف بيسوع المسيح , ووصف اليهود بأنهم لصوص وقطاع طرق وحشرة مثيرة للاشمئزاز.
وتغيرت لدى فريق من المسيحيين النظرة التقليدية التى كانت سائدة بشأن اليهود و تاريخ الشعب اليهودى , فقد كانت الفكرة الكاثوليكية هى عدم تفسير ما جاء فى التوراة عن العهد الإلهى و ظهور المسيح وعودة اليهود إلى فلسطين تفسيراً حرفياً و إنما كان تفسير الكهنة هوأن اليهود قد ارتكبوا المعصية فعاقبهم الله بنفيهم فى بابل وانتهى وجودهم كأمة مع نفيهم الثانى (الشتات ) ,
أما ما جاء بشأن عودتهم إلى فلسطين فقد تحقق بعد عودتهم من بابل , و أما ما تضمنته التوراة بشأن مستقبل إسرائيل فإن المقصود هو إسرائيل الجديدة أى الكنيسة المسيحية , و قد أحدث البروتستانت تعديلاً جوهرياً على تلك النظرة حيث ركزت اهتمامها على العهد القديم و فسرت نصوص التوراة حرفياً بحيث أصبح الكثيرون يعتقدون أن اليهود الذين يعيشون فى البلدان المسيحية أجانب عنها وسوف يعودون إلى فلسطين تحقيقاً لنبوءات التوراة .

وبهذا كانت بداية انتعاش اليهود فى أوربا هى نفسها بداية انتكاسة الكنيسة الكاثوليكية فى بداية القرن السادس عشر عندما احتضنت البروتستانتية اليهود حيث جمعها اضطهاد الكاثوليك .
وكان عصر النهضة عاملاً مساعداً للإصلاح البروتستانتى فى ذلك التغير للنظرة الأوربية لليهود بما أحدثه من تغيرات جذرية فى المجتمع الأوربى فالبروتستانتية ترفض فكرة الشعب الشاهد وتؤمن بالعقيدة الألفية الاسترجاعية (Milleniarism ) التى ترى أن السيد المسيح سيعود مرة أخرى للأرض ويؤسس مملكته على الأرض لمدة ألف عام ,وكان هذا مشروطاً بعودة اليهود إلى أرض الميعاد و تنصيرهم .
وكانت فكرة الشعب الشاهد الكاثوليكية ترى ضرورة الحفاظ على اليهود فى حالة ضعة ومذلة ليقفوا شاهداً على عظمة الكنيسة والشعب الشاهد ليس جزءاً من المجتمع إذ يجب عليه أن يقف على الحدود لكى يشهد كل شيء ويشاهده .
بينما كان اليهود يؤمنون بفكرة الماشيح حيث سيأتى ملك من نسل داود ليخلص اليهود من غير الأغيار ويعود بهم إلى وطنهم القومى ويقف بذلك شاهداً على عظمة اليهود وعلى ضعة الآخرين .
وجاء الفكر البروتستانتى فمزج الفكرتين وأصبح الشعب الشاهد هو نفسه الشعب المقدس الذى يجب استرجاعه إلى فلسطين لتنصيره حتى يتم التخلص منه والخلاص للجميع .
وكانت فكرة المجيء الثانى لسيدنا عيسى فى القرن السادس عشر ثم سادت فى القرن الثامن عشر الأوساط الشعبية و كانت ركائز الفكر الكاثوليكى أثناء الثورة الفرنسية 1798م ,
ويسخر العالم المسيحى لتأييد اغتصاب فلسطين انطلاقاً من تحريف اليهود للكتب المقدسة , وهذا يؤكد اختراق الفكر اليهودى للمسيحية , وتبنى النصارى على مدى أربعة قرون قضية تجميع إسرائيل

فى أرض فلسطين تمهيداً لعودة المسيح , وأصبح فريق من المسيحيين يؤيدون الهدف الصهيونى الرامى إلى عودة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها ويطلق عليهم الصهيونيون المسيحيون وذيوع تلك الأفكار هو الذى مهد السبيل أمام الحركة الصهيونية وكفل لها تأييد ودعم عدد من رجال الفكر والسياسة فى العالم المسيحى الغربى .
وهكذا كان اليهود أداة الكاثوليكية تحافظ عليها والبروتستانتية رأت نقلها إلى فلسطين وتذويبها فى المنظومة المسيحية , وقد تحسن وضع اليهود فى أوربا البروتستانتية فاستطاعوا أن ينظموا أنفسهم و يكونوا قوة مؤثرة فى المجتمعات الأوربية .
وابتداءً من القرن السابع عشر وظهور الثورة التجارية ولم يكن بالإمكان الاستمرار فى الدفاع عن وجود اليهود من منظور فكرة الشعب الشاهد حيث ظهرت فكرة العقيدة الألفية ونما تيار العلمانية فتم الدفاع عن عودة اليهود إلى إنجلترا فى القرن السابع عشر من منظور النفع الاقتصادى .
وظفر اليهود بحقوق المواطنين فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين , وسارعوا بإنشاء جمعيات يهودية , وفى إيطاليا بعد عصر النهضة اندمج اليهود فى جماعة واحدة واصطبغوا بالصبغة الإيطالية , وأدى ضعف الكنيسة الكاثوليكية إلى تغيير نظرة الحكومات والأفراد إلى الأقليات غير المسيحية التى تعيش بينهم وأهمها اليهود ,
وأصبح الممول اليهودى الجديد أساساً للطبقة التجارية النامية ولم يعتمدعلى نظام الربا القديم الذى كان من أسباب كره الناس له , وحصلوا على مناصب مهمة فى الدولة والمؤسسات الخاصة.

والثورة العلمية جعلت أوربا مجتمعاً جديداً إلا مؤسسة الفاتيكان التى بدت كجلمود صخر فأنكرت المستحدثات الفكرية العصرية , وذمت الحركات العقلية الحرة التى أرخت أواصر الولاء والامتثال للنظم والشعائر الكاثوليكية , فندد الكرسى البابوى بالإشتراكية والمذاهب الحرة والشيوعية وجمعيات التوراة وحرية الضمير والصحافة .

وفى الأقطار البروتستانتية من أوربا فإن المعتقدات الدينية تشكلت وفق الأسفار اليهودية والمسيحية أكثر من تقريرها بواسطة كنيسة مسيطرة مهيمنة , وغدت التوراة كتاباً عادياً لا سفراً مقدساً , وشرع فى وضعها موضع التمحيص طبقاً لقواعد الإثبات والترجيح , فنقد التوراة بعد ذلك لم يكن بالبدعة المستحدثة فإسبينوزا الفيلسوف اليهودى فى أمستردام عام 1670 م تكهن عن مبادئ ونتائج عديدة لهذه الفكرة .

مراجع الموضوع
(1) تاريخ اليهود أحمد عثمان
(2) قصة الحضارة ول ديورانت
(3) موجز تطور الحضارات الإنسانية د. محمد صادق صبور
(4) تاريخ ألمانيا د.محمد كمال دسوقى
(5) التطرف الإسرائيلى جذوره وحصاده طاهر شاش
(6) الصهيونية والعنف د . عبد الوهاب المسيرى
(7) الجماعات الوظيفية د . عبد الوهاب المسيرى
(8) المؤامرة د . زغلول النجار
(9) اليهود و اليهودية و الإسلام د . عبد الغنى عبود
(10) تكوين أوربا كريستوفر دوس

هناك تعليق واحد:

  1. موضوع اعتبره بحث شامل وموجز فى حقبة يغيب عن كثير منا القراءة فيها رغم اهميتها وثقلها فى التاريح وكل ما اتمناه ان يلاقى الموضوع استحسان من يقرأه كما لاقى بداخلى روعة وانبهارا بدقتك وتسلسل اسلوبك الرائع
    سلمت يمينك اخى الفاضل ولا تحرمنا من المزيد
    M.sadat

    ردحذف