الجمعة، 7 يناير 2011

العلم والإيمان

كانت جهود علماء عصر النهضة الأوربية قد بلغت ذروتها عن طريق نيوتن
الذى أتم تشييد العلم الحديث الذى كان له أثر على الدين والأخلاق والفلسفة
حيث أعقب نشأة العلم نزعة شكية دينية كبرى
فأنتجت الثورة العلمية عصر الشك فى الدين حيث لم يعد هناك مجال للإيمان بالتدخلات الإلاهية فى عمل الطبيعة ,
فقد أحدث نيوتن حساً بين الناس بإبعاد الألوهية , وسلم العقل الحديث بأن جميع الأحداث ترجع إلى الأحداث الطبيعية فقط ,
بينما كان يسيطر على الكنيسة الكاثوليكية التفسير الغائى والإيمان بأن العالم يمثل نظاماً أخلاقياً وأن القيم الأخلاقية موضوعية ,
وبدأ العلم الحديث يغير هذه المفاهيم وقدم للناس رأياً قاطعاً بانعدام الغائية فى الأشياء وحل محلها التفسير الآلى فكف العلماء عن التفكير فى الغايات وركزوا فى بحثهم عن الأسباب , وأصبحت الحياة البشرية بلا معنى ولا غرض ,
ولم تعد هناك رابطة منطقية بين مكتشفات العلم وأى مشكلة أخلاقية , وكان أثر المفاهيم العلمية على الأخلاق سيئاً و تجلى هذا السوء فى مظهرين :
1- هدم الإيمان بالله لارتباطه بالغاية والغرض بينما يرتبط العلم بالسبب .
2- انعدام الإيمان بحرية الإرادة وهى القضية المعروفة بالحتمية العلمية
وأصبح سلطان العقل عند الأوربيين منذ ديكارت (1596- 1650م) لا يعلوه أى سلطان إلا سلطان التجربة و الواقع عند التجريبيين ,
وأصبح العقل أساس الفكر المتحرر وأداته , وتحرر الفكر من أساطير الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة , وبرز العقل متألقاً عظمة وحى جديد ,
وطالب بالسيادة والسيطرة فى كل مجال وميدان .
وكان ديكارت قد مهد للنظرة الطبيعية للعالم ( التى اشتقت منها الثورة العلمية ) بإدخال المذهب الآلى والطبيعى فى تفصيلات مذهبه , فكل شيء عنده آلة عدا النفس والله , وبلغت النظرة العلمية ذروتها عند دافيد هيوم الذى أسس الوضعية المنطقية وأصبحت الأخلاق عنده ذاتية والعالم لم يعد يمثل نظاماً أخلاقياً .

وكان هناك فلسفات عبرت عن احتجاجات لصالح النظرة الدينية إلى العالم مثل باركلى وكانت وهيجل , فقد لاحظ كانت مغالاة معاصريه وإعلائهم من قدرة العقل ,
وأكد على أن للعقل الإنسانى حدوداً ينبغى ألا يتجاوزها وإلا غاب اليقين وضاعت الحقيقة , ووضع العقل تحت مجهر البحث الدقيق , وبهذا فقد الإنسان مركزيته وأسبقيته على الطبيعة / المادة ,
وتحول إلى جزء منها وظهرت الأخلاق النفعية المادية التى تعفى الإنسان من المسئولية الأخلاقية , وتحرر الإنسان من المفاهيم الإنسانية والقيم المطلقة مثل المساواة والعدل , وأصبح هو نفسه تجسيداً لقانون الطبيعة ولحركة المادة .

وذلك فى الوقت الذى بدأت فيه أوربا فى منتصف القرن التاسع عشر تكتب صفحة جديدة فى تاريخها تمتاز بانتصار القومية بمثاليتها الرائعة وروحها الوطنية المنظمة ومصالحها السياسية القوية , وتمتاز بأهوائها العمياء وجيوشها الجرارة وحروبها المجيدة وتهديدها الدائم للسلام والتعاون الدولى.

وقد اعترى مجموعة الأفكار والمعتقدات والتقاليد التى توارثها الأوربيون منذ الأزمنة السحيقة تحول جوهرى عميق بسبب تقدم علوم التاريخ و الاقتصاد والطبيعة والعديد من المبتكرات الآلية ,
كل هذا جعل أوربا مجتمعاً جديداً أله العقل وألغى الإيمان وكل ما هو غيب حتى أصبح الإنسان عندهم مقياس الأشياء جميعها , والإيمان بقدرته على المعرفة وتحويل هذه المعرفة إلى وسائل للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لمصلحته .

وأصبح من حقه تحويل العالم وجميع الشعوب إلى وسائل لخدمة مصالحه فتحولت الإنسانية الهيومانية الغربية إلى إمبريالية وآداتية ثم إلى عنصرية , وانقسم البشر إلى (سوبر من ) إمبرياليين يتحكمون فى كل البشر والطبيعة و( سيمن ) دون البشر يذعنون لإرادة السوبرمن والقوانين الطبيعية والمادة,
وهذا ما يسمى النفعية الدارونية وهى تذهب إلى أن من يمتلك القوة له الحق أن يوظف الآخرين لخدمة مصالحه .
وهذا الأمر له علاقة بالتطور الحادث فى مجال العلم , وكان نتيجة مباشرة له فقد أثار داود اشتراوس وعديدون غيره الريب فى حقيقة المسيح وتاريخه, ونبذ الناس الأفكار العتيقة الخاصة بتاريخ العالم القديم وأصل الإنسان ,
وذلك نتيجة للكشوف العلمية وبخاصة نتائج أبحاث تشارلز لايل فى كتابه ( مبادئ الجيولوجيا ) وتشارلز دارون فى كتابيه (أصل الأنواع بواسطة الانتقاء الطبيعى) و( تسلسل الإنسان).

وظهر التساؤل الملح القائل إذا كان علم الأحياء هو المفتاح لفهم فعالية الماضى أفلا يمكن أن يساعد فى صوغ المستقبل أيضاً ؟ وهل فى وسع الساسة ألا يكترثوا للعامل البيولوجى ؟
أوليس واجبهم يدعوهم إلى تشجيع السلالات القوية وتثبيط السلالات الضعيفة؟ وهل يستطيع مجتمع البقاء دون أن يتعاون بالتشريع أو بالعرف مع الطبيعة فى إبادة غير الصالح ؟

أوليست نتيجة حتمية لمبادئ داروين أن الحكم الأرستقراطى هو المبدأ السليم الوحيد للحكم وأن المنافسة هى الركن الوحتد المضمون للتقدم والارتقاء؟.
فالبشر الذين يمكن توظيفهم يشار إليهم باعتبارهم مادة بشرية, والذين لا يمكنهم توظيفهم يشار إليهم باعتبارهم مادة بشرية فائضة لابد أن تخضع لمعالجة إما بالتصدير أو إعادة صياغة أو إبادة .

فإيمان الأوربى بالعقل حرره من الإحساس بالعجز أمام قوى الطبيعة, ودفعه إلى تسخيرها لمصلحته وتحرير ضميره من ضغط القوى الخفية فى الطبيعة التى كانت تشله , وبعث لروح المغامرة فى تذليل الصعوبات والبحث عن المجهول لاكتشافه , والإيمان بالتقدم الدائم وشعور الإنسان بقيمة الحرية على أساس أنها بعد أساسى من أبعاد وجودنا .
وشعر الإنسان الغربى بذاته وقوة إرادته ومقدرته على البطش, وتزايدت معدلات النسبية المعرفية والأخلاقية مما أدى إلى ضمور حس الغربى الأخلاقى, وقدرته على اتخاذ القرار وإذعانه للقانون الوضعى كقيمة مطلقة ,
ويؤمن بالعلم وسيستأصل ما يعوق ظهور الإنسان الجديد الكامل المتحكم فى نفسه تماماً ويبرمجها , ومن هنا ظهرت علوم تهتم بتحسين النسل مثل الهندسة الوراثية, والعداء الشديد للتشوهات الخلقية وفكرة المرض نفسها ,
وتقام يوتوبيا تعفى الإنسان من مسئولية الاختيار الأخلاقى؛ لأن كل شيء سيكون تحت السيطرة المخططة , وتم تصنيف الناس على أساس بيولوجى عرقى إلى أعراق دنيا , وظهرت فكرة الفولك أوالشعب العضوى الذى تربطه بأرضه وثقافته رابطة عضوية حتمية لا تنقسم عراها وتحل الرابطة الإثنية محل العرقية .
لقد فشل العقل الأوربى فى تقديم نظرة شاملة موحدة لكيان الإنسان , وانتهى به عجزه إلى إنكار الحقيقة الروحية للإنسان وإسقاطها من حسابه فى تنظيم حياته , وفشل العقل فى أن يقدم للإنسان معنى لوجوده ,
وهدفاً لحياته وموازين ثابتة لأخلاقه ففتح الباب للقلق والغثيان والفوضى لأن تسود فكانت الحروب والاستعمار والانحلال الأخلاقى والاجتماعى .
وقد هدف نيتشة وماركس إلى تأسيس مجتمع علمانى تعاقدى يستند إلى قيمتى المنفعة واللذة لا إلى القيم الدينية والأخلاقية المطلقة ,
وأصبحت القيمة الأخلاقية شيئاً بعيداً للغاية لا علاقة له بفعل الإنسان المباشر , فقد تم القضاء على الشخصية التقليدية ذات الولاء لمطلق ثابت يتجاوز عالم المادة والتاريخ, وحلت محلها الشخصية الحركية المتغيرة المتقلبة مع حركة المادة التى لا ولاء عندها لأى ثوابت , وتوظف الكون لصالحها وهى شخصية هزيلة
مهتزة لا تثق فى ذاتها ولا رؤيتها ولا هويتها , لذا يتوجب توجيهها حسب ما يصل إليها من أوامر من علٍ , وهنا أصبح من الممكن أن تقرر الدولة إبادة عناصر غير نافعة فى المجتمع ولم يعد هذا جريمة , فلا توجد قوانين مطلقة خارجة عن الدولة .
وكان للفيلسوف الألمانى هيجل دور مهم فى تقديس الدولة عندما قال أن تاريخ العالم صراع من جانب العقل ( الروح ) لكى يصل إلى مرحلة الوعى الذاتى أى (حر) يستحوذ على العالم ويتعرف عليه على أنه ملك له ,
وأن محرك التاريخ هو إشباع الرغبات الأنانية فهى أكبر منابع السلوك أثراً , وكل ما تحقق طوال التاريخ من مبادئ وأفكار عامة احتاج إلى منفعة شخسية تكون بمثابة العامل ( الإرادة ) وحينما تتحد الإرادة الذاتية والموضوعية تتجلى هذه
الوحدة فى الكل الأخلاقى أو الدولة , فهى وحدها الحقيقة الواقعة التى يجد فيها الفرد حريته , ونتج عن ذلك أن قامت الحضارة الأوربية على ما يمكن تسميته بأنانية الحضارة أو الحضارة الأنانية التى تعتمد على طغيان الملكية الفردية أو الفكر المادى فى داخلها وبالتالى السعى إلى السيطرة والتحكم السياسى والاستغلال الاقتصادى للعالم الخارجى وهو ما انعكس فى السيطرة الاستعمارية لأوربا على العالم ,
وأنانية الحضارة تعنى الأنانية فى المصلحة والسلوك وبالتالى السعى للهيمنة دون تضحية وجهد حقيقى صائب و بأقل قدر من الخسائر مقابل أكبر قدر ممكن من المكاسب .
ولذلك فعندما بلغ العنفوان الأوربى الذروة فى القرن التاسع عشر وسيطر على البر والبحر , ظهر المعيار المزدوج : البناء فى داخل الغرب والهدم فى خارجه , العقل والعلم والحرية والديمقراطية فى الداخل والأسطورة والخرافة والتسلط و القهر فى الخارج , فتحطمت القيم الغربية على حدود الجغرافيا ,
وأصبحت أدوات للسيطرة والتبشير والإلهاء , وخلق طبقة منبهرة بالغرب باسم العلمانية والتنوير والحداثة والعقلانية والعلم ضد الأصولية والسلفية والظلامية والتخلف والتعصب والعنف والانغلاق .

لقد انبهر الإنسان الغربى بالمدنية التى بلغها بعد الهمجية , وهذا الانبهار بهيمنته جعله يعتبر تجربته الحضارية بمثابة المقياس والمعيار للحضارات الأخرى , وأعطى لنفسه الحق فى الوصاية ووضع المعايير والقيم للحضارات بفرض السيطرة عليها .
وخرجت الجيوش الغربية الإمبريالية تحمل أسلحة الدمار , وحوّل الإنسان الغربى نفسه إلى سوبرمان مطلق له حقوق مطلقة تتجاوز الخير والشر ,
ومن أهمها حق الاستيلاء على العالم و تحويله إلى مجال حيوى لحركته و نشاطه, وتحويل العالم إلى مادة خام طبيعية أو بشرية ,
فاعتبرت شعوب آسيا وإفريقيا مجرد ( سيمن) موظف لخدمته واعتبرت الكرة الأرضية مجرد مجال حيوى له يصدر له مشاكله ولم يفرق بين شعوب آسيا وإفريقيا وبين المادة الفائضة من شعوب العالم الغربى حيث كانت أولى عمليات المعالجة هى نقل الساخطين سياسياً و دينياً ( البيوريتان ) والمجرمين والفاشلين فى تحقيق الحراك الاجتماعى فى أوطانهم الغربية إلى أمريكا الشمالية و أستراليا ,
وأيضاً بهدف تحقيق مصالح الإنسان الغربى يتم نقل سكان إفريقيا إلى الأمريكتين لتحويلهم إلى مادة استعمالية رخيصة , ونقل جيوش أوربا إلى كل أنحاء العالم للهيمنة عليه وتحويله لصالح الغرب ونقل الفائض البشرى من أوربا إلى جيوب استيطانية غربية فى كل أنحاء العالم لتكون ركائز للجيوش الغربية ,
ونقل أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى فتم نقل صينيين إلى ماليزيا ونقل هنود إلى مناطق متفرقة , ونقل اليهود إلى الأرجنتين ونقل العناصر المقاتلة من آسيا وإفريقيا وخاصة الهنود السيخ إلى جنود مرتزقة لخدمة الجيوش الغربية الاستعمارية ,
وفى الحرب العالمية الأولى تم تهجير 132 ألفاً من سكان المغرب العربى لسد الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين وكانت أول هجرة لسكان المغرب العربى واستمرت بعد ذلك .
وفى ظل هذا الترانسفير الخاضع لمبدأ المصلحة الأوربية الغربية تم حل مشكلة عدم استجابة اليهود للتحديث بنقلهم إلى خارج أوربا كعلاج للمشاكل الداخلية التى أحدثوها ويكون موضعهم نقطة ارتكاز للجيوش الغربية وجيب استيطانى يدافع عن مصالح الغرب فى المنطقة التى سيزرع فيها ,
ويتم تحديدها فى ضوء خطوط سير الجيوش الأوربية , وفى ضوء تحديد أماكن الصراع التى يجب اختراقها ,
وفى ضوء اكتشاف الثروات الطبيعية والتى سيأتى على قمتها البترول , وتجتمع كل هذه العوامل فى فلسطين التى بها تكتمل الحلقة المفقودة وهى الأسطورة الدينية والتاريخية التى ستكون الغطاء الأكبر لأكبر عملية ترانسفير فى تاريخ البشرية من حيث الأثر .

هناك تعليقان (2):

  1. بحث رائع ولكنة ينقص المقارنة بين العلم واالايمان

    ردحذف
  2. موضوع جميل للغايه
    مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو
    ووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووورررررررررر
    ياغالىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىى

    ردحذف