الخميس، 24 ديسمبر 2009

نشأة الشيعة

حرص الشيعة فى تناولهم للتشيع على نسب التشيع لعصر الرسول صلى الله عليه وسلم , وذلك كمحاولة دفاعية ضمنية لنفى كونه ظاهرة مستحدثة فى الإسلام , ولجعله متجذراً فى التاريخ الإسلامى , ويسير سيرة موازية للإسلام , بل أحياناً يصورون التيار العام للإسلام على أنه منسلخ من التشيع حين تخطى الصحابة تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم , والتى كانت فيما يعتقدون تدفع الأمة نحو التشيع لسيدنا لعلى رضى الله عنه وذريته .
وفى البداية نستعراض نظرية أصل الشيعة كما وضحها الشيخ الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء وهو معروف باعتداله , وتقاربه من أهل السنة , يقول فى كتابه عقائد الشيعة المسمى أصل الشيعة وأصولها: " إن أول من وضع بذرة التشيع فى حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلامية , يعنى أنّ بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبا إلى جنب " .
واستدل على ذلك بالعديد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: " لأن عدداً ليس بالقليل اختصوا فى حياة النبى بعلى ولازموه وجعلوه إماماً كمبلغ عن الرسول وشارح ومفسر لتعاليمه وأسرار حكمه وأحكامه وصاروا يعرفون بأنهم شيعة علىّ " .
ويقول عن الشيعة : " يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علماً للناس من بعده , وكان النبى يعلم أنّ ذلك سوف يثقل على الناس وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره , ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم وإلى اليوم ليسوا فى مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبى وعصمته عن الهوى والغرض , ولكن الله سبحانه لم يعذره فى ذلك فأوحى إليه " يا أيها النبى بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " المائدة آية 67 , فلم يجد بداً من الامتثال فخطب الناس عند غدير خم .
ولكن كبار الصحابة بعد النبى صلى الله عليه وسلم تأولوا تلك النصوص نظراً منهم لصالح الإسلام حسب اجتهادهم فقدموا وأخروا وقالوا الأمر يحدث بعد الأمر , وامتنع علىّ وجماعة من عظماء المسلمين عن البيعة أولاً , ثم رأى امتناعه من الموافقة والمسالمة ضرر كبير على الإسلام , فتابع وبايع حيث رأى أنّ بذلك مصلحة الإسلام وهو على منصبه الإلهى من الإمامة وإن سلم لغيره التصرف والرئاسة العامة فإن ذلك المقام مما يمتنع التنازل عنه بحال من الأحوال ".
وعن الفترة التى تلت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كاشف الغطاء: " حين رأى (علىّ) أنّ الخليفة الأول والثانى بذلا أقصى الجهد فى نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثروا ولم يستبدوا بايع وسالم وأغضى عما يراه له حقاً , محافظة على الإسلام أن تصدع وحدته وتتفرق كلمته ويعود الناس إلى جاهليتهم الأولى , وبقى شيعته منضوين تحت جناحه ومستنيرين بمصباحه , ولم يكن للشيعة والتشيع يومئذ مجال للظهور , لأن الإسلام كان يجرى على مناهجه القويمة , حتى إذا تميز الحق من الباطل وتبين الرشد من الغى وامتنع معاوية عن البيعة لعلى وحاربه فى صفين انضم بقية الصحابة إلى علىّ حتى قتل أكثرهم تحت رايته وكان معه من عظماء أصحاب النبى ثمانون رجلاً كلهم بدرى عقبى ".

وعن الفترة الأموية يقول كاشف الغطاء: " لما قتل علىّ واستتب الأمر لمعاوية وانقضى دور الخلفاء الراشدين , سار معاوية بسيرة الجبابرة فى المسلمين " .
" ثم انتهى به الأمر إلى دس السم إلى الحسن عليه السلام فقتله بعد أن نقض كل عهد وشرط عاهد الله عليه له ثم أخذ البيعة لولده يزيد قهراً".

وفى تفسيره لأسباب انتشار التشيع يقول:" ومن يوم خلافة معاوية ويزيد انفصلت السلطة المدنية عن الدينية وكانت مجتمعة فى الخلفاء الأولين فكان الخليفة يقبض على إحداهما باليمين وعلى الأخرى بالشمال , ولكن من عهد معاوية عرفوا أنه ليس من الدين على شىء , وأنّ الدين له أئمة ومراجع هم أهله وأحق به ولم يجدوا من توفرت فيه شروط الإمامة والعلم والزهد والشجاعة وشرف الحسب والنسب غير علىّ وولده ...
فلم يزل التشيع لعلى عليه السلام وأولاده يسرى فى جميع الأمة الإسلامية خفيا وظاهراً ومستوراً وبارزاً "
"ثم تلاه شهادة الحسين ,وما جرى عليه يوم الطف مما أوجب انكسار القلوب والجروح الدامية فى النفوس .
وكثير من أمثال ذلك ( الحسن والحسين ) يبثون تلك الأحاديث وينشرون تلك الفضائل وبنو أمية يلغون فى دمائهم ويتعقبونهم قتلاً وسماً وأسراً كل ذلك كان بطبيعة الحال مما يزيد التشيع شيوعاً وانتشاراً ويجعل لعلى وأولاده المكانة العظمى فى النفوس وغرس المحبة فى القلوب .
فكان بنو أمية كلما ظلموا واستبدوا واستأثروا وتقاتلوا على الملك كان ذلك كخدمة منهم لأهل البيت وترويجاً لأمرهم وعطفاً للقلوب عليهم , وكلما شددوا فى الضغط على شيعتهم ومواليهم وأعلنوا على منابرهم سب علىّ وكتمان فضائله وتحريرها إلى مثالب انعكس الأمر وصار رد فعل عليهم , ثم خلفتها الدولة العباسية فزادت , وتتبعوا الذرارى العلوية من بنى عمهم فقتلوهم تحت كل حجر ومدر ".
ويقول عن انتشار التشيع : "ضع قبالة ذلك سيرة بنى على وانسبها إلى سيرة المروانيين والعباسيين , هناك تنجلى لك الحقيقة فى أسباب انتشار التشيع وتعرف سخافة المهووسين إنها نزعة فارسية أو سبأية أو غير ذلك هناك تعرف إنها إسلامية محمدية لا غير" .
"الإمام على زين العابدين بعد شهادة أبيه انقطع عن الدنيا وأهلها وتخلص للعبادة وتربية الأخلاق ... وانتهى الأمر إلى ولده محمد الباقر وحفيده جعفر الصادق فشادوا ذلك البناء , وجاءت الفترة بين دولتى بنى أمية وبنى العباس , فاتسع المجال للصادق, وارتفع كابوس الظلم وحجاب التقية ,فتوسع فى بث الأحكام الإلهية, ونشر الأحاديث النبوية التى استقاها من عين صافية من أبيه وجده عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وظهرت الشيعة ذلك العصر ظهوراً لم يسبق له نظير .
اشتغال بنو أمية وبنو العباس فى تقوية سلطانهم ومحاربة أضدادهم وإنهاكهم فى نعيم الدنيا وتجاهرهم بالملاهى والمطربات وانقطاع بنى علىّ إلى العلم والعبادة والورع والتجافى عن الدنيا وشهواتها , وعدم تدخلهم فى شأن السياسة كل ذلك هو الذى أوجب انتشار مذهب التشيع وإقبال الجم الغقير عليه .
وكانت هذه العقيدة الإيمانية والعاطفة الإلهية كشعلة نار فى نفوس بعض الشيعة تدفعهم إلى ركوب الأخطار , وإلقاء أنفسهم على المشانق وتقديم أعناقهم أضاحى للحق وقرابين للدين ".
هكذا عرض الشيخ كاشف الغطاء أصل الشيعة .

وفى بداية تناولنا لنشأة الشيعة كما نعتقدها يجب أن نوضح معنى كلمة شيعة, فكلمة شيعة تعنى فى المعنى العام الأحباب والأنصار والأتباع, أى ما يفيد الالتفاف حول فكرة أو أحد من الناس , والشيعة من يتقوى بهم الإنسان , فأى جماعة متجانسة متجمعة حول فكر أو مبدأ أو رجل واحد يقال عنها شيعة كذا .
وأُطلِق اصطلاحياً على سبيل القصر بعد ذلك على المسلمين الذين يخصون علياَ بالحب, ويتعصبون له على أنه كان الأولى بالخلافة من أبى بكر وعمر وعثمان .
يقول ابن منظور : الشِّيعةُ أَتباع الرجل وأَنْصارُه أَصلُ الشِّيعة الفِرقة من الناس , وقد غلَب هذا الاسم على من يَتَوالى عَلِيًّا وأَهلَ بيته رضوان الله عليهم أَجمعين حتى صار لهم اسماً خاصّاً فإِذا قيل فلان من الشِّيعة عُرِف أَنه منهم وفي مذهب الشيعة كذا أَي عندهم وأَصل ذلك من المُشايَعةِ وهي المُتابَعة والمُطاوَعة قال الأَزهري والشِّيعةُ قوم يَهْوَوْنَ هَوى عِتْرةِ النبي صلى الله عليه وسلم ويُوالونهم .

وتحت عنوان "دور التشيع فى بناء الحضارة الإسلامية " يقول الشيخ يعقوب الجعفرى:لمفهوم التشيع ثلاثة معان فى إطارالتاريخ الإسلامى:
1- المعنى الخاص باللفظ وهو الاعتقاد بخلافة الإمام على وأحقيته فى ذلك , وهذا ينطبق على سائر فرق الشيعة .
2- يطلق على الغالبية من المسلمين التى بايعت عليّاً بالخلافة بعد مقتل عثمان , وإن لم تنطبق عليها مواصفات المعنى الخاص للتشيع فى مقابل شيعة معاوية , وهم عرفوا فى مصادر التاريخ بالشيعة من دون صدق المعنى الاصطلاحى عليهم .
3- يطلق على كل موالٍ لأهل البيت , فبعض المعتزلة ممن هم ليسوا شيعة بالمعنى الأخص كان يطلق عليهم الشيعة المعتزلة لاعترافهم بفضائل علىّ وعلمه .
ولبيان المعنى الاصطلاحى يجب علينا أن نسترجع آراء المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فى الخلافة , فبالإضافة إلى الرأى الأول وهو رأى الأنصار فى السقيفة حيث اتجهوا إلى سعد بن عبادة , والثانى كان رأى أبى بكر ومن معه من المهاجرين- رضى الله عنهم - فى أن الإمامة فى المهاجرين من قريش , كان هناك فريق ثالث رأى أن الخلافة فى بنى هاشم وهم أسرة النبى صلى الله عليه وسلم , ونادوا بعلىّ رضى الله عنه لامتيازه على كل بنى هاشم بالسبق إلى الإسلام والدفاع عنه , والعلم والفقه فى الدين.
وفكرة الأولوية والأفضلية لخلافة النبي الكريم ظهرت بعد وفاته مباشرة , واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة لينظروا في أمر الخلافة , وكادت تحدث فتنة بين المجتمعين لولا أن الخليفة " عمر بن الخطاب " حسم الأمر وبايع أبا بكرٍ فبايعه المسلمون بعد ذلك ، وتخلف الإمام " عليّ " عن البيعة بعض الوقت, إلا أنه بايع الخليفة الجديد " أبا بكر " وهو راض عن البيعة مقبل عليها، غير أن فكرة الأولوية كانت تراود نفس الإمام ومعه السيدة " فاطمة الزهراء " وبعض صحابة الإمام وبني هاشم , حتى أن الخليفة " عمر بن الخطاب " قال لابن عباس وهو يشير إلى عليّ : ( أما والله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا خفناه على اثنين: حداثة السن وحبه بني عبد المطلب.
و الخليفة " عمر بن الخطاب " وهو على فراش الموت يشير إلى الإمام "علي" ويقول:(والله لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء).
ففكرة التشيع لعليٍّ بهذا المعنى ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم , حيث كان التشيع يعني أن الإمام " علياًّ " أولى بالخلافة وأحق بها من غيره , ولكن المسلمين نزولاً لأوامر القرآن الكريم الذي يقول:
( وأمرهم شورى بينهم ) الشورى آية 38 , ارتضوا " أبا بكر " خليفة , والإمام ارتضاه كما ارتضاه غيره , وبايعه كما بايعه غيره , وهكذا كان موقفه مع الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضى الله عنهم جميعاً , فبايعهما وأخلص لهما في المشورة والرأي.
فهناك رأى يرى أنّ "علياً بن أبى طالب" - رضى الله عنه- عندما بلغه خبر البيعة لأبى بكر فى أول الأمر لم يرض عنها , وأن تكون الخلافة فى بيت النبى- صلى الله عليه وسلم- وأقرب الناس إليه- صلى الله عليه وسلم- عمه "العباس بن عبد المطلب" وابن عمه "علىّ بن أبى طالب" , ولكن "العباس" لم يكن من السابقين إلى الإسلام فكان أولى الناس من قرابة النبىّ "على بن أبى طالب" , ولم ينازع "العباس" "علياً" فى أولويته للخلافة وإن نازعه فى أولويته فى الميراث فى فدك.
وحجة أصحاب هذا الرأى أن أقرب الناس إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- أولى أن يخلفوه وأنّ بيت بنى هاشم خير من بيت "أبى بكر" , فالعرب لهم أطوع , وأنّ المهاجرين احتجوا على الأنصار بأنهم قوم النبى وعشيرته فآل النبى وأقربهم إليه أولى .
لقد سأل "عليُّ" عما حدث فى سقيفة بنى ساعدة فقال: فماذا قالت قريش؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم , فقال علىُّ : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة .
ودعا إلى هذا الرأى علىُّ وأيده بعض بنى هاشم والزبير بن العوام وعطف عليه بعض الأنصار لمّا كان موقفهم وموقف علىّ سواء فى ضياع الأمر منهم .
ويصر الشيعة على أن التشيع ظهر فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم , وكنتيجة لأحاديث منسوبه إليه صلى الله عليه وسلم .
فقالوا أنّ جمعاً من الصحابة كان يرى أن عليّاً أفضل من أبى بكر وعمر وغيرهما, وذكروا أنّ ممن كان يرى هذا الرأى عمار وأبوذر و المقداد بن الأسود وسلمان الفارسى وجابر بن عبد الله والعباس وبنوه وأُبىّ بن كعب وحذيفة وغيرهم ممن وافقت مودته مودة علىّ وهم أول من تشيع لعلى فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم وبعده .
وأطلقوا عليها الشيعة العلوية , وهؤلاء كانوا منقطعين إليه , ويقولون بإمامته , ويفرق المؤرخون بين هذا التشيع المبكر, والتشيع الاصطلاحى الذى تطور وصار مذهباً له أصوله وقواعده , كالقول بوجوب الإمامة وعصمة الإمام والتقية.
فالتشيع المبكر هو المعنى البسيط للتشيع الذى يقول أنّ عليّاً أولى من غيره بالخلافة من وجهتين ؛ كفايته الشخصية , وقرابته للنبى صلى الله عليه وسلم , كان النواة التى تكون التشيع الاصطلاحى حولها .
ولم تمت النظرة القائلة بأولوية علىّ فى الخلافة فى عهد أبى بكر وعمر , ولكن سكنت وخمدت وساعد على سكونها وخمودها عدل أبى بكر وعمر , وأنهما لم يعيرا العصبية القبلية أىّ التفات , وزاد فى سكونها اشتغال الناس بالحروب والفتوح فلم يجد الناقمون مجالاً يدخلون منه على الناس لإثارتهم الفتن.
فبعد وفاة عمر بن الخطاب رضى الله عنه أظهر المقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وسلمان الفارسى الدعوة لعلىّ أثناء الشورى حتى خاف بعض أهل الشورى تفرق الناس فطلب سعد بن أبى وقاص من عبد الرحمن بن عوف أن يتعجل القضاء فى الأمر , فلما بايع عبدالرحمنُ عثمانَ دخلوا جميعا فيما دخل فيه الناس كما فعل علىُّ نفسه رضى الله عنهم أجمعين.
وظهرت الجماعات فى أواخر عهد سيدنا عثمان تدعو إلى خلعه , ومنها من كانت تدعو إلى ولاية علىّ , ومن أشهر الدعاة له عبدالله بن سبأ الذى كان من أكبر الذين ألّبوا الناس على عثمان حتى قتل .
وتكاثرت شيعة علىّ لما نقم الناس على عثمان فى السنوات الأخيرة من خلافته , ثم لمّا ولى علىُّ الخلافة, حيث أصبح غالبية المسلمين أتباع لعلى رضى الله عنه , ولذا اعتبرتهم الشيعة من الشيعة .
وعلى ذلك انقسم المسلمون فى خلافة علىّ رضى الله عنه إلى حزبين : الحزب الأكبر وقد سمى شيعة علىّ , والحزب الأقل وقد سمى شيعة معاوية .
فالتشيع أول الأمر (فى حياة سيدنا على ) لم يكن فرقة دينية بل فكرة سياسية تعبر عن رأى سياسى يرجح سيدنا علىّ رضى الله عنه على غيره من الصحابة , وكان المسلمون يتفاوتون فى مدى تحمسهم لسيدنا علىّ وانتصارهم له .
وانتصارهم له كان انتصاراً سياسياً ولم يكن انتصاراً دينياً , فسيدنا علىّ أحق بالخلافة فى نظرهم لفضله وعلمه وحكمته , ولم يكن انتصارهم له أكثر من انتصار لمبدأ الخلافة .
وإذا كان الخلاف قد بدأ سياسياً , إلا أن طبيعة السياسة الإسلامية ذات صلة بالدين , وهو قوامها ولبها , ولذلك كانت مبادئ المذاهب السياسية تحوم حول الدين , وتعرضت لأمور تتعلق بأصول الدين حول العقيدة والإيمان , فكان لها رأى قائم فيها, وتجاوز البعض إلى آراء فى الفروع, فكان للمذهب السياسى آراء فى الاعتقاد ومذهب فقهى فى الفروع أبقى أثراً فى التاريخ من المذهب السياسى.
و الخلاف بين علىُّ رضى الله عنه والأمويين الخارجين عليه انبعث عن فكرة هى : من لهم حق اختيار الخليفة ؟ أهم أهل المدينة وحدهم والناس لهم تبع , أم حق الاختيار للمسلمين كافة ؟
فالخلاف تفاعل بين المذاهب السياسية والحوادث الواقعة نتج عنه نشأة الخوارج والشيعة .
وعندما استقر سيدنا علىُّ فى الكوفة سعى ابن سبأ إليه وتظاهر بحبه , وكان قد تشيع له ونادى بحقه فى الخلافة , وصدّقه كثير من المسلمين فى قوله بالوصاية والرجعة .
وجاء ابن سبأ عليّاً مع آخرين يسألونه عن أبى بكر , فردّهم رداً عنيفاً لائماً لهم على تفرغهم لمثل هذا على حين كانت مصر قد فتحت من قِبَل "معاوية" وقتلت فيها شيعة "علىّ" .
ثم ألّهوا عليّاً وضاق علىُّ بهذا التأليه وحرق بعض القائلين به بالنار فى حفرتين , فعلىّ رضى الله عنه خاف من إحراق الباقين منهم شماتة أهل الشام , وخاف اختلاف أصحابه عليه , ونفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن مما أدّى إلى نشر فكرة الوصاية هناك فانتشر التشيع بين الفرس وكذلك فكرة الرجعة , واستمر التأليه بعد موت سيدنا علىّ.
والبغدادى فى الفرق بين الفرق أخرج السبئية من فرق أمة الإسلام لتسميتهم عليّاً إلها.
وكان ابن سبأ أول من أشهر القول بفرض إمامة علىّ , وأظهر البراءة من أعدائه , وكان يقول فى علىّ ما كان يقول وهو على يهوديته فى يوشع بن نون بعد سيدنا موسى .
ولمّا قتل سيدنا "علىّ" زعم "ابن سبأ" أنّ المقتول لم يكن "عليّاً" وإنّما كان شيطاناً تصور فى صورته , وأنّ "عليّاً" صعد إلى السماء مثل سيدنا "عيسى بن مريم"- عليه السلام- وأنه سينزل إلى الدنيا , وقال لمن جاء بنعى "علىّ" : لو جئت بدماغه فى سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمت أنه لم يمت ولم يقتل ولا يموت حتى يملك الأرض ويملأها عدلاً كما ملئت جوراً . فهو المنتظر عندهم .

ولما قتل سيدنا "علىّ" التقت الفرقة التى كانت معه والفرقة التى كانت مع "طلحة" و"الزبير" والسيدة "عائشة" فى فرقة واحدة مع "معاوية ابن أبى سفيان" , وبايعه الجميع إلا الخوارج .
لقد قتل سيدنا "-علىّ رضى الله عنه- وليس له حزب منظم , ولا شيعة مميزة , بل لم ينظم الحزب العلوى , ولم توجد الشيعة المميزة إلا بعد أن تم اجتماع الأمر "لمعاوية" وبايعه "الحسن" .
وبعد مقتل الإمام "علىّ" تمركزت حركة المعارضة للأمويين فى العراق, لكنها لم تكن فقط معارضة متشيعة لسيدنا "على" وولديه (وهى مختلفة عن التشيع الذى ستكتمل ملامحه فيما بعد ) بل كانت هناك حركة أخرى هى الخوارج , ثم ظهرت القدرية والجهمية والجعدية , فلم تستأثر الشيعة بساحات الصراع التى توزعت على هذه الفرق , ولذلك لا يمكن اعتبار العراق فى ذلك الوقت - رغم نزول علىّ فيه - إقليم شيعى , بل هو مركز للمعارضة المتعددة الفئات , فالكوفة لم تصبح شيعية خالصة , رغم أنها كانت عاصمة "على ابن أبى طالب"- رضى الله عنه- التى قاتلت الأمويين إلى جانبه .
ولدى التدقيق فى شخصيات الكوفة الثقافية فى تلك الفترة لا نجد من بينها إلا القليل من الشيعة .
فلا يمكن ربط نشأة التشيع فى العراق بحركة المعارضة التى بدأت من عهد الخليفة الثالث , فقد كانت هناك معارضة يقودها شيعة وجمهورها ليس بالضرورة من الشيعة , وأخرى يقودها الخوارج وجمهورها ليس بالضرورة من الخوارج , وبقى الحال إلى أن حصل الفرز بين القيادة الشيعية بدءاً من حركة زيد بن على زين العابدين .

الحسن بن علىّ (ت 49هـ )
كان الحسن من الذين أسرعوا إلى دار عثمان , فقاموا دون الخليفة يريدون حمايته , ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان , فكان عثمانياً بالمعنى الدقيق للكلمة , و كان الحسن كارها للفتنة منذ ثارت .
وشهد الحسن مع أبيه مشاهده فى البصرة وصفين والنهروان دون أن يشارك فيها لأن أباه كان يضن به وبالحسين على الخطر مخافة أن يصيبهما شر فتنقطع ذرية النبى صلى الله عليه وسلم , وكان يقيهما بنفسه وبأخيهما محمد بن الحنفية .
وكانت شيعة علىّ ( كل من كان مع أمير المؤمنين علىّ وقت وفاته ) قد قالت بإمامة الحسن بن علىّ بعد أبيه , ولم يعرض نفسه على الناس, ولم يتعرض لبيعتهم وإنما دعا إلى هذه البيعة قيس بن سعد بن عبادة , فبكى الناس واستجابوا , و أخرج الحسن فأجلس للبيعة , واشترط على الناس أن يسمعوا ويطيعوا ويحاربوا من حارب ويسالموا من سالم , فلما سمع منه تكراره لأمر السلم أثابوا وظنوا أنه يريد الصلح .
ونهض للحرب يريد أهل الشام لأنهم لم ينزلوا على طاعة أمير المؤمنين علىّ وبعده الحسن , وكان فى نيته الصلح فهو لا يحب القتال بل إنه كان معارضاً لخروج علىّ لقتال أهل الشام .
خرج بالناس إلى المدائن , وبعث قيس بن سعد على مقدمته فى اثنى عشر ألفاً لقتال معاوية , وأقبل معاوية فى أهل الشام حتى نزل مَسكن .
وبينما هو فى المدائن إذ نادى منادٍ فى العسكر : ألا إنّ قيس بن سعد قد قُتِل فانفروا , فنفروا ونهبوا سرادق الحسن حتى نازعوه بساطاً كان تحته , وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن فلما رأى تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح.
لما تنحى الحسن عن محاربة معاوية , وانتهى إلى مظلم ساباط وثب عليه رجل من بنى أسد يقال له الجرّاح بن سنان , فأخذ بلجام دابته , ثم قال : الله أكبر , أشركت كما أشرك أبوك من قبل . وطعنه بمغول فى أصل فخذه فقطع الفخذ إلى العظم , فاعتنقه الحسن وخرا جميعاً فاجتمع الناس على الجرّاح فوطأوه حتى قتلوه ثم حملوا الحسن على سريره وقد أثخنته الجراح , فأتوا به المدائن فلم يزل بها فى منزل سعد بن مسعود الثقفى حتى صحّت جراحته ثم انصرف إلى المدينة.
فلم يزل جريحاً من طعنته سقيما فى جسمه كاظماً لغيظه متجرعاً لريقه على الشجا والأذى من أهل دعوته حتى توفى.
وكان من أثر هذه الطعنة أن ازداد الحسن بغضاً لأهل العراق , فأقام فى المدائن حتى شفى من جرحه , وتعجل السلم ثم رجع إلى الكوفة , فاستقبل فيها سفراء معاوية.
كانت الحرب تحتاج قبل كل شىء إلى الجند المؤمن المخلص فى دفاعه وليس موجوداً عنده , فكان يرى ضرورة الصلح لذلك .
خطب الحسن أهل العراق وقال : سخى نفسى عنكم ثلاث : قتل أبى , وطعنى , وانتهاب بيتى . ثم قال : ألا وقد أصبحتم بين قبيلتين ؛ قبيل بصفين يبكون له , وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره , وأما الباقى فخاذل, وأما الباكى فثائر , وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة , فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبى السيوف, وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضى , فناداه الناس من كل جانب البقية الباقية فامض للصلح.
فكاتب الحسن معاوية وأرسل إليه بشروط , وفى نفس الوقت أرسل معاوية للحسن بصحيفة بيضاء مختوم أسفلها , وكتب إليه أن اشترط ما
شئت , فلما أتت الحسن اشترط أضعاف الشروط التى سأل معاوية قبل ذلك , وأمسكها عنده وأمسك معاوية صحيفة الحسن , وعندما التقيا لم ينفذ معاوية منها شيئاً , وكان فيما اشترط الحسن ألا يشتم علىّ وهو يسمع.
وصالح معاوية الحسن على أن يأخذ من بيت مال الكوفة (خمسة ملايين) درهم , وخراج كورتين من كور البصرة ما عاش.
قال الحسين : نشدتك الله أن تصدّق أحدوثة معاوية , وتكذّب أحدوثة علىّ . فقال الحسن : اسكت فأنا أعلم بالأمر منك .
وكتب الحسن لقيس بن سعد أن يدخل وجيشه فى طاعة معاوية . فسأل جنده إما الدخول فى طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام , فاختاروا الدخول فى طاعة إمام ضلالة , فبايعوا معاوية.
يقول ابن تغرى بردى : وكان قيس بن سعد ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعد موت علي. فلما دخل الجيش في بيعة معاوية أبى قيسُ أن
يدخل، وقال لأصحابه: ما شئتم جالدت بكم أبداً حتى يموت الأعجل، وإن شئتم أخذت لكم أماناً. قالوا: خذ لنا، ففعل.
لم يكن الحسين بن علىّ يرى رأى أخيه ولا يقرّ ميله إلى السلم , وألحّ على أخيه فى أن يستمسك ويمضى فى الحرب , ولكن أخاه امتنع عليه وأنذره بوضعه فى الحديد إن لم يطعه , ودخلا المدينة منصرفين عن الكوفة .
ولم يكن قعود الحسن عن الحرب جبناً , وإنما كان كراهية لسفك الدماء من جهة وشكّاً فى أصحابه من جهة أخرى.
فلما توادع الحسن ومعاوية , وأخذ منه المال الذى بعث به إليه على الصلح, طعن بعض الشيعة في الحسن وخالفوه ورجعوا عن إمامته, فدخلوا فى مقالة جمهور الناس , وكان من بقى من أنصار الحسن وشيعته من خيرة المسلمين , وهم خلاصة من كان مخلصاً لسيدنا علىّ قبل وفاته .
وبعد بيعة الحسن لمعاوية أظهر معاوية لأهل العراق شدة بعد لين , وعنفاً بعد رقة , فجاء أهل العراق مكة يعاتبون الحسن , ويخبرونه أن معاوية نقض الصلح على رؤوس الأشهاد , ويطلبون أن يعيد الحرب, وأن يأذن لهم فى أن يخلعوا معاوية , ويخرجوا عامله على الكوفة .
وبهذا اللقاء تكوّن الحزب السياسى المنظم لشيعة علىّ وبنيه , وأصبح الحسن له رئيساً , وعاد أشراف أهل الكوفة إلى من ورائهم ينبئونهم بالنظام الجديد .
وكانت الشيعة تنشط أشد النشاط فى نشر الدعوة للإمام من أهل البيت بحيث يئول الأمر إليه حين يستشار المسلمون فى أمر خلافتهم بعد معاوية .
فالشيعة فى هذا الوقت كانت رأياً سياسياً ليس أكثر, كما كانت دعوة الأمويين , والفرق الإسلامية كانت عند نشأتها أحزاباً سياسية , والاختلاف بينها لم يكن اختلافاً فى صلب العقيدة الإسلامية , وإنما كان اختلافاً فى الرأى حول طريقة الحكم واختيار الحاكم , والشيعة ركزوا فكرهم على الحكم , وأحقية سيدنا علىّ فيه هو وذريته .

معاوية بن أبى سفيان
غيّر معاوية سياسته تغييراً تاماً بعد قتل الإمام على رضى الله عنه , فأعرض عن العنف ومال إلى الرفق وأمعن فيه , وكأنه كان يعرف عثمانية الحسن , وبغضه للفتنة , وتحرجه من سفك الدماء .
ويتجلى الأمر فى قول معاوية لعمرو بن العاص عندما نصحه بقتال الحسن فقال له : على رسلك يا أبا عبد الله , فإنك لا تخلص من قتل هؤلاء حتى يقتل عددهم من أهل الشام فما ضير الحياة بعد ذلك , وإنى والله لا أقاتل حتى لا أجد من القتال بداً.
دخل معاوية الكوفة بعد الصلح فبايعه الناس , وأظهر لأهل العراق شدة بعد لين ,وعنفا بعد رفق , فأعلن إليهم أول الأمر ألا بيعة لهم عنده حتى يكفوه بوائقهم ويردوا عنه خوارجهم هؤلاء الذين خرجوا عليه , فمضى أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم كما كانوا يقاتلونهم أيام علىّ.
وأعلن معاوية أنّ ذمته بريئة ممن لم يقبل فيعطى البيعة , وأجّلهم ثلاثاً, فأقبل الناس من كل مكان يبايعون .
جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيام علىّ فيحزنون عليها , ويندمون على ما كان من تفريطهم فى جنب خليفتهم , ويندمون على الصلح.
ولما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة من قِبَل معاوية رفق بالناس , وسمح لهم وترك لمعارضى بنى أمية من أنصار علىّ ومن الخوارج قدراً من الحرية , وساهم ذلك فى نمو التشيع , فكلما بدأه الشيعة بالكلام القاسى
نصح لهم ورفق بهم وحبب إليهم العافية , وقد انتفع الشيعة بهذه السياسة , فنظموا أمورهم وعارضوا سياسة الأمويين معارضة حرة , ولم ينكر الشيعة خلال عشر سنين قضاها المغيرة والياً على الكوفة شيئاً ذا خطر إلا أنّ يكون عيبه لعلىّ .
ولما صار الأمر إلى زياد بن عبيد الله فى العراق اشتدّ فى أمر الخوارج , فلم ينتظر بهم أن يخرجوا فجعل يستقصى أمورهم , ويتتبع أفرادهم حيث يكونون , ويأخذهم بالشبهة والظن , فكثر القعود بين الخوارج فى أيامه .
وجاء أهل العراق يعاتبون الحسن , ويخبرونه أنّ معاوية نقض الصلح على رءوس الأشهاد , ويطلبون أن يعيد الحرب , وأن يأذن لهم فى أن يخلعوا معاوية , ويخرجوا عامله على الكوفة .
وكان الحسن نفسه وفيّاً لمعاوية ببيعته,ولكنه على ذلك كان معارضاً,
و لم يكن يستخف بمعارضته,وكان معاوية رفيقاً بالحسن واصلاً له أحسن الصلة , وهذا لأن معاوية أجاد قراءة شخصية الحسن المسالمة .
يقول ابن خلدون عن معاوية بعد بيعة الحسن له :
"استوت قدمه , واستفحل شأنه , واستحكمت فى أرض مصر رياسته , وتوثق عقده , وأقام فى سلطانه وخلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التى لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يداً من أهل الترشيح من ولد فاطمة وبنى هاشم وآل الزبير وأمثالهم , ويصانع رءوس العرب , وقروم مضر بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه , وكانت غايته فى الحلم لا تدرك وعصابته فيها لا تنزع , ومرقاته فيها تزلّ عنها الأقدام ".
وفى سنة 56هـ أعفى معاوية المغيرة بن شعبة عن الكوفة وأراد أن يولّى سعيد بن العاص , فدخل المغيرة على يزيد , وعرّض له بالبيعة, فأدّى ذلك يزيد إلى أبيه فردّ معاوية المغيرة إلى الكوفة فأمره أن يعمل فى بيعة يزيد , وأمر معاوية الناس أن يبايعوا لابنه يزيد من بعده حيث عدل عن طريقة من سبقه .
وكان الحسن قد اشترط عليه أن تكون الخلافة بعده شورى بين المسلمين , وقيل لمعاوية إما أن تتركها كما كانت على زمن النبى صلى الله عليه وسلم , أو ما كان عليه أبو بكر الصديق, واعط الخلافة لرجل ليس منك , أو ما كان عليه عمر لأنه جعلها فى ستة ليسوا من أهل بيته , أو أن تترك الأمر والمسلمون يختارون .

الحسين بن على
صارت رياسة الشيعة إلى أبى عبدالله الحسين بن علىّ بعد وفاة الحسن سنة49هـ , وخالف سياسة أخيه التى ساس بها الحزب , فأطلق لسانه فى معاوية وولاته , وأغرى حزبه فى الاشتداد فى الحق و الإنكار على الأمراء ففعلوا, وكانت الكوفة خاصة مركز المعارضة العنيفة لمعاوية وعامله زياد .
وبسبب سياسة الحسن لم يؤذ الشيعة فى أنفسهم ولا فى أموالهم ما عاش الحسن , فلما صار أمر الشيعة إلى الحسين وعنفت المعارضة كادت أن تصبح ثورة فى الكوفة لقيها معاوية وولاته بالشدة المفرطة .
فقد كانت سياسة الحسين مقوية للشيعة , ومضعفة لها فى وقت واحد لأنها جعلتهم مضطهدين , وجرت عليهم المحن القاسية , مما روّج لآرائهم وأغرى الناس باتباعهم , ولذلك عظم أمر الشيعة فى الأعوام
العشرة الأخيرة من حكم معاوية , وانتشرت دعوتهم فى شرق الدولة الإسلامية وفى جنوب بلاد العرب , ومات معاوية وكثير من الناس وعامة أهل العراق يرون بغض بنى أمية وحب آل البيت لأنفسهم ديناً.
لقد قاتل معاوية عليّاً على دم عثمان من جهة , وعلى أن يرد الخلافة شورى بين المسلمين من جهة أخرى , فلما استقام له السلطان نسى ما قاتل عليه , أو أعرض عما قاتل عليه لرأى رآه .
ولما أراد مصالحة الحسن عرض عليه أن يجعل له ولاية الأمر من بعده فأبى الحسن ذلك , واشترط فيما اشترط أن يعود الأمر بعد معاوية شورى بين المسلمين , يختارون لخلافتهم من أحبوا, فقبل معاوية(2).
وبعد أن أمر معاوية الولاة لأخذ البيعة ليزيد , مرض مرضه التى هلك فيه وقد بايع الناس ليزيد إلا خمسة أشخاص ؛ الحسين بن على و عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبى بكر وعبد الله بن عباس , فيقول ليزيد وهو على فراش الموت :
" وإنى لا أتخوف أن ينازعك بن علىّ وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبى بكر ,فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة , وإذا لم يبق أحد غيره بايعك , وأما الحسين بن علىّ فإنّ أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه , فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه , فإنّ له رحماً ماسة وحقاً عظيمة , وأما ابن أبى بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثلهم , ليس له همّة إلا فى النساء واللهو , وإما الذى يجثم لك جثوم الأسد , ويراوغك مراوغة الثعلب , فإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير , فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطّعه إرباً إرباً ".
فلم يكن ليزيد همة حين ولى إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى البيعة , فكتب إلى الوليد بن عتبة والى المدينة ليبايعهم , ويأخذ عليهم بشدة .
ولما دعاهم قال الحسين : إن مثلى لا يعطى البيعة سراً , فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً , وكان الوليد يحب العافية , وكان يرى فى قتل الحسين لضياع للدين.
أما عبد الله بن الزبير فقال : أنظر هذه الليلة وأخبركم برأيى .
فقالوا : نعم . فلما كان الليل خرج من المدينة هارباً إلى مكة, ولم يبايع, وفى اليوم التالى تشاغل الوليد بطلب ابن الزبير فخرج الحسين إلى مكة ليلاً ببنيه وإخوته وبنى أخيه وجُلّ أهل بيته إلا محمد بن الحنفية.
وقال عبد الله بن عمر : إذا بايع الناس بايعت . وكانوا لا يتخونونه .
وحدث أن اجتمع أهل الكوفة فى بيت سليمان بن صرد الخزاعى بحضور المسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد البجلى وحبيب بن مظاهر وعبد الله بن وال وقرروا إرسال وفد من قِبَلِهم , وعليهم أبو عبد الله الجدلى .
وأتى أهل الكوفة الحسين فى مكة وقالوا : إنا قد حبسنا أنفسنا عليك , ولسنا نحضر الجمعة مع الوالى فأقدم علينا, إنا بايعناك ولا نريد إلا أنت , وليس فى أعناقنا بيعة ليزيد . وتكاثرت الكتب على الحسين حتى بلغت أكثر من خمسمائة كتاب من أهل الكوفة .
فبعث الحسين إلى مسلم بن عقيل بن أبى طالب فقال له : سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلىّ فإن كان حقاً خرجنا إليهم.
فقدم الكوفة ونزل عند هانئ بن عروة المرادى , وجاء الناس يبايعونه على بيعة الحسين , وكان النعمان بن بشير أمير الكوفة من قِبَل يزيد يظهر كأنه لم يسمع شيئاً , ولم يعبأ بالأمر حتى خرج بعض الذين عنده إلى يزيد فى الشام وأخبروه بالأمر, فعزل النعمان بن بشير.
وتولى عبيد الله بن زياد إمارة الكوفة مع البصرة على أن يقتل ابن عقيل إن وجده , فوصل عبيد الله الكوفة ليلاً متلثماً فكان عندما يمر على الناس يسلم عليهم فيقولون : وعليك السلام يا ابن بنت رسول الله . يظنون أنه الحسين.
فدخل القصر وأرسل مولى له فسأل حتى وجد مسلم وأخبر عبيد الله .
كان مسلم بن عقيل قد أرسل إلى الحسين أن أقدم فإنّ الأمر قد تهيأ ببيعة اثنى عشر ألفاً من أهل الكوفة .
وأحضر عبيد الله بن زياد بابن هانئ بن عروة فسأله : أين مسلم بن عقيل ؟ فقال : والله لو كان تحت قدمى ما رفعتها . فضربه عبيد الله وحبسه , وبلغ الخبر مسلم بن عقيل , فخرج فى أربعة آلاف وحاصر
قصر عبيد الله , وخرج أهل الكوفة معه , وكان عند عبيد الله فى ذلك الوقت أشراف الناس , فقال لهم : خذّلوا الناس عن مسلم ووعدهم بأن يعطيهم , وخوفهم بجيش الشام , فصار الأمراء يخذّلون الناس عن مسلم , فما زالت المرأة تأتى وتأخذ ولدها , ويأتى الرجل ويأخذ أخاه , ويأتى أمير القبيلة فينهى الناس حتى لم يبق معه إلا ثلاثون رجلاً .
ما غابت الشمس إلا ومسلم بن عقيل وحده يمشى فى دروب الكوفة حتى لجأ إلى بيت امرأة من كندة , قام ولدها بإخبار عبيد الله بمكان مسلم , فأرسل إليه سبعين رجلاً , فحاصروه فقاتلهم ورفض الاستسلام حتى أمنوه , فأخذوه إلى قصر الإمارة, وقبل قتله أوصى عمر بن سعد بن أبى وقاص بأن يرسل إلى الحسين بأن يرجع , فأرسل عمر رجلاً إلى الحسين ليخبره بأنّ الأمر قد انقضى , وأنّ أهل الكوفة قد خدعوه,
وأخبره قولة مسلم المشهورة : ارجع بألك لا يغرّنّك أهل الكوفة , فإنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبونى , وليس لكاذب رأى.
كان الحسين قد نزل مكة فأقبل أهلها ومن كان بها من المعتمرين يختلفون إليه , وابن الزبير قد لزم الكعبة , ويأتيه الحسين فيمن يأتيه ,
ويشير عليه بالرأى وهو أثقل خلق الله على الزبير , فقد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً مادام الحسين بالبلد , وأنّ حسيناً أعظم فى أعينهم وأنفسهم منه وأطوع فى الناس منه .
ولما أجمع الحسين المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس فقال : فإنى أعيذك بالله من ذلك , أخبرنى رحمك الله , أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم , وضبطوا بلادهم , ونفوا عدوهم ؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم , وإن كانوا إنما يدعوك إلى الحرب والقتال ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك , فقال الحسين : إنى أستخير الله وأنظر ما يكون .
وقال له ابن الزبير : أما إنّك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إن شاء الله .
ثم أتاه ابن عباس فقال : يابن عمّ إنّى أتصبر ولا أصبر , إنّى أتخوف عليك فى هذا الوجه الهلاك والاستئصال , إنّ أهل العراق قوم غُدُر فلا تعربنّهم أمم بهذا البلد فإنّك سيد أهل الحجاز , فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا , فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم , فإن أبيت إلا أنه تخرج فسر إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً , ولأبيك بها شيعة , وأنت عن الناس فى عزلة . لقد أقررت عين ابن الزبير بتخلّيك إياه الحجاز والخروج منها وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك .
وكذلك حاول كثير من الصحابة منع الحسين من الخروج مثل عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو سعيد الخدرى ومحمد بن الحنفية ,ولما خرج الحسين من مكة اعترضه رُسُل عمرو بن سعيد بن العاص, حيث كتب له كتاباً يدعوه لعدم الشقاق ويعلن خوفه عليه ويعطيه الأمان والصلة والبر إن أتاه مسالماً , ورد عليه الحسين أن يجازيه خيراً إن أراد بكتابه الصلة والبرومضىالحسين على وجهه.
وفى الصفاح لقيهم الفرزدق بن غالب الشاعر وقال له الحسين : بيّن لنا نبأ الناس خلفك . قال الفرزدق : من الخبير سألت , قلوب الناس معك وسيوفهم مع بنى أميّة والقضاء ينزل من السماء , والله يفعل ما يشاء.
جاء خبر مسلم عن طريق رسول عمر بن سعد , فهمّ الحسين أن يرجع فكلّم أبناء مسلم بن عقيل , فقالوا: لا والله لا نرجع حتى نأخذ بثأر أبينا, فنزل على رأيهم .
قال عبد الله بن مطيع العدوى للحسين : أنشدك الله فى حرمة العرب , فوالله لئن طلبت ما فى أيدى بنى أميّة ليقتلنّك , ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً .
بعد أن علم عبيد الله بن زياد بخروج الحسين , أمر الحر بن يزيد التميمى أن يخرج بألف رجل مقدمة ليلقى الحسين فى الطريق , فلقيه قريباً من القادسية بثلاثة أميال , فأوقفه الحر وقال له : ارجع فإنّى لم أدعْ لك خلفى خيراً أرجوه.
ووقف الحر بن يزيد التميمى اليربوعى مقابل الحسين فى حر الظهيرة فى منطقة ذى حُسُم أو ( البيضة ) وسمح بالسقيا لهم ولخيلهم , وصلى الحسين بالجميع صلاة الظهر ثم العصر , وكان الحر يريد أن ينطلق بالحسين إلى عبيد الله حيث أنه لم يؤمر بقتاله وإنما لا يفارقه حتى يدخله الكوفة على عبيد الله . قال الحسين : الموت أدنى إليك من ذلك .
قال الحر : لم أؤمر بقتالك , إنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة , فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة , يكون بينى وبينك نصفاً . فرضى الحسين .
وسار الحسين فى أصحابه والحر يسايره , وأعطاه ألا يتعرض له حتى يأتيه كتاب من ابن زياد .
وقرب نينوى جاء الأمر إلى الحر بن يزيد أن ينزل الحسين بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء , وساروا قليلاً حتى وصلوا كربلاء ووقف الحر و أصحابه أمام الحسين ومنعوه المسير لقربه من الفرات .
ووقف جواد الحسين فسأل الحسين عن الأرض , قالوا : تسمى الطف .
قال هل لها اسم غيره ؟ قالوا : تعرف كربلاء . فدمعت عيناه , وقال : اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء ههنا محط ركابنا وسفك دمائنا , ومحل قبورنا وبهذا حدثنى جدى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولّى عبيد الله بن زياد عمر بن سعد بن أبى وقاص هذا الأمر وجاء ابن سعد فى أربعة آلاف من الكوفة يمثلون مؤخرة الجيش , وردّ الحسين على رسول عمر بن سعد عندما سأله : ما الذى جاء به ؟
قال : كتب إلىّ أهل مصركم هذا أن أقدم فأما إذا كرهونى فأنا أنصرف عنهم .
وأمر عمر بن سعد الحسين أن يذهب معه إلى عبيد الله بن زياد , فأبى
وجاء من عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد أن حُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء , ولا يذوقوا منه قطرة كما صُنِع بعثمان بن عفان.
ونازله عبد الله بن أبى حصين الأزدى على شريعة الماء , بينما سمح لهم عمرو بن الحجاج الزبيدى أخذ الماء .
وخيّر الحسين عمر بن سعد خياراته الثلاثة : إما أن تدعونى فأنصرف من حيث جئت , وإما أن تدعونى فأذهب إلى يزيد , وإما أن تدعونى فألحق بالثغور .
فقبل ذلك عمر وقال : نعم أرسل أنت إلى يزيد , وأرسل أنا إلى عبيد الله وننتظر ماذا يكون الأمر , فلم يرسل الحسين إلى يزيد , فلما جاء رسول عمر إلى عبيد الله رضى أى واحدة يختارها الحسين , ولكن
شمر بن ذى الجوشن قال له : والله لئن رحل من بلدك ولم يضع يده فى يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة , ولتكونن أولى بالضعف والعجز , فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن , ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه .
فاغتر عبيد الله بقوله وقال لشمر : اذهب حتى ينزل على حكمى فإن رضى عمر بن سعد وإلا فأنت القائد مكانه .
وأتى ابن ذى الجوشن إلى عمر بتنفيذ كتاب عبيد الله وإلا اعتزل .
ووقف شمر على أصحاب الحسين وقال : أين بنو أختنا ؟
فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علىّ من أم البنين فرفضوا الأمان الذى أعطاهم إياه وقالوا : أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟
ورد الحسين على رد عبيد الله وقال : لا والله لا يكون ذلك أبداً .

فلما قالوا : لا إلا على حكم ابن زياد ,قال الحر بن يزيد لهم : ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم ! والله لو سألكم هذا الترك والديلم ما حل لكم أن تردوه . قال عمر : أما لو كان الأمر إلىّ لفعلت , ولكن أميرك قد أبى .
فأبوا إلا على حكم ابن زياد , فصرف الحرُ وجه فرسه وانطلق إلى الحسين وأصحابه وقلب ترسه وساّم عليهم .

قال الحر وهو يلحق بالحسين : جعلنى الله فداك يا بن رسول الله أنا صاحبك الذى حبسك عن الرجوع وسايرتك فى الطريق , والله ما ظننت أنّ القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً , ولا يبلغون منك هذه المنزلة , والله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك .
زحف عمر بن سعد بعد صلاة العصر يوم 9 محرم يعرض عليهم النزول على حكم الأمير أو القتال , وطلب الحسين الانتظار إلى الغد ليرى أمره , وأجّلهم عمر إلى الغد.

وحث الحسين جيش الكوفة الذى كان عدده أربعة آلاف على ترك أمر عبيد الله والانضمام إليه فانضم له ثلاثون منهم , وصلى الحسين الظهر والعصر بالفريقين وتقدّم جيش الكوفة إلى الحسين .
جمع الحسين أصحابه فى المساء ثم قال لهم : انطلقوا جميعاً فى حِلٍ ليس عليكم منى ذمام , هذا ليلٌ قد غشيكم فاتخذوه جملا , فإنّ القوم إنما يطلبونى ولو قد أصابونى لهوا عن طلب غيرى . فقال إخوته وأبناؤه وبنو أخيه : لم نفعل لنبقى بعدك لا أراد الله ذلك أبداً.
وقاموا الليل كله يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون , وبعد صلاة الغداة عبّأ الحسين أصحابه , وكان معه اثنان وثلاثون فارسأ وأربعون راجلاً بالإضافة إلى الحر بن بن زيد الذى عدل إليه وقتل معه .
كان الحسين حريصاً ألا يبدأهم , وصاح بالقوم أنهم كتبوا إليه يستقدمونه فقالوا : لم نفعل .
وكان قد أغضبهم انضمام الحر لمعسكر الحسين , فتقدّم عمر بن سعد ورمى بسهم وقال : اشهدوا لى عند الأمير أنّى أول من رمى . ثم رمى الناس بعده .
وأخذ أصحاب الحسين يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل فى أهل الكوفة , فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقى أتدرون من تقاتلون ! فرسان المصر وأهل البصائر , وقوماً مستميتين لا يبرزنّ لهم منكم أحد , فإنّهم قليل وقلّما يبقون , والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم . فقال عمر بن سعد : صدقت الرأى ما رأيت , وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألا يبارز رجلٌ منكم رجلاً منهم .
عندما حمل عمرو بن الحجاج على الحسين فى ميمنة عمرو بن سعد صٌرع مسلم بن عوسجة الأسدى أول أصحاب الحسين , وكان الثانى عبد الله بن عمير الكلبى فى الميسرة و قتلت معه زوجته بعد أن مشت إليه.
وقاتلهم أصحاب الحسين قتالاً شديداً وأخذت خيلهم تحمل إنما هم اثنان وثلاثون فارساً , فلا تحمل على جانب من خيل الكوفة إلا كشفته , وقد كره شبث بن ربعى القتال لهم .
فقاتلوهم حتى انتصف النهار أشد قتال , وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضهم من بعض .

فأرسل عمر بن سعد رجالاً يقضون البيوت عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم فقتلهم أصحاب الحسين , فأمر بها عمر أن تُحرق بالنار , فقال الحسين : دعوهم فليحرقوها فإنهم لو حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا أليكم منها .
وطعن شمر بن ذى الجوشن فسطاط الحسين برمحه , وأراد حرقه بأهله , وحمل عليه زهير بن القين حتى كشفه عن البيوت .
وكان إذا قتل الرجل أو الرجلان من أصحاب الحسين تبين فيهم , وأولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم .
جاء الحصين بن تميم برأس حبيب بن مظاهر فى العسكر قد علقه فى عنق فرسه ثم دفعه إلى تميمى آخر حيث اشتركا فى قتله ( وفى زمان مصعب بن الزبير بن العوام قتل ابن حبيب قاتل أبيه حيث كان يتبعه),
وقتل الحر بن يزيد , وصلى بهم الحسين صلاة الظهر صلاة الخوف , واشتد القتال بعد الصلاة , فقتل زهير بن القين .
ورمى نافع بن هلال الجملى فقتل اثنى عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح فضُرب حتى كُسرت عضداه وأُخذ أسيراً , وقتله ابن ذى الجوشن.
ولما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كُثِروا وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينً ولا أنفسهم تنافسوا فى أن يقتلوا بين يديه مثل عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان وسيف بن الحارث بن سُريع ومالك بن سريع و حنظلة بن أسعد الشبامى وعباس بن أبى شبيب الشاكرىّ
وشوذب مولى شاكر والضحاك بن عبد الله المشرقى وأبو ثمامة الصائدى وسلمان بن مضارب البجلى وزهير بن القين وبرير بن خضير .
وخلص إلى الحسين وإلى أهل بيته , ولم يبق معه غير سويد بن عمر بن أبى المطاع الخثعمى وبشير بن عمرو الحضرمى والضحاك بن عبد الله المشرقى .
كان أول من قتل من بنى أبى طالب يومئذ علىّ الأكبر بن الحسين وهو شبيه الرسول صلى الله عليه وسلم , طعنه مرة بن منقذ بن النعمان العبدى,وقتل مع الحسين ثمانية عشر رجلاً كلهم من آل البيت , فقد رمى عمرو بن صبيح الصدّائى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم وقتل النبهانى عون بن عبد الله بن جعفر , وقتل عامر بن نهشل التيمى محمد بن عبد الله بن جعفر , وقتل عثمان بن خالد بن أسير الجهنىّ وبشر بن سوط الهمدانى عبد الرحمن بن عقيل , ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمى جعفر بن عقيل فقتله , وقتل عمرو بن سعد بن نفيل الأزدى الغلام القاسم بن الحسن بن علىّ , وعندما أدركه الحسين أطن ساعده وقتل تحت الخيل .
ورمى عبد الله بن عقبة الغنوى أبا بكر بن الحسين بن علىّ فقتله , وقُتِل العباس وعبد الله وجعفر وعثمان أبناء على بن أبى طالب .
ورمى حرملة بن كاهل الأسدى عبد الله بن الحسن وهو صبى فى حجر الحسين فذبحه , فجعل الحسين يمسح الدم عنه ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا , وخرج بسيفه يقاتل.
وقطعت اليد المنى للحسن بن الحسن ولم يستشهد .
حين اشتد على الحسين العطش فدنا ليشرب من الماء فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع فى فمه .
أمر الحسين العباس أن يطلب الماء للأطفال فرفضوا , فنزل وملأ القربة وركب جواده فتكاثر عليه زيد بن الرقاد الجنى وحكيم بن الطفيل السنبسى وضربوه على رأسه بالعمود فسقط على الأرض , فقال الحسين الآن انكسر ظهرى وقلت حيلتى .

كانت الرجالة لتتكشّف عن يمين الحسين وشماله فخرجت زينب ابنة فاطمة أخت الحسين وهى تقول : ليت السماء تطابقت على الأرض !
يا عمر بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟
فسالت دموع عمر على خديّه ولحيته وصرف وجهه عنها .
ومكث الحسين طويلاً من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عليه .
حمل عبد الله بن عمار على الحسين بالرمح ثم انصرف عنه غير
بعيد , وقال : ما لأصنع بأن أتولى قتله ! يقتله غيرى .

واستبّ أبو الجنوب وشمر عندما دعا كل منهما الآخر ليحمل على الحسين, ومكث الحسين طويلاً من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا , حيث كان يتقى بعضهم ببعض , ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء .
جاء شمر فصاح بالناس , فجاءوا وحاصروا الحسين , فصار يجول بينهم بالسيف حتى قتل منهم من قتل , فنادى شمر : ويحكم ماذا تنظرون بالرجل ! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فَحُمِل عليه من كل جانب , فضرب زرعة بن شريك التميمى كفّه اليسرى , وضُرِب على عاتقه ثم انصرفوا وهو ينوء ويكبو وحمل عليه سنان بن أنس بن عمرو النخعى فطعنه بالرمح فوقع ثم حز رأسه .

وجد بالحسين حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة , وأربع وثلاثون ضربة , وسلب الحسن ما كان عليه فأخذ سراويله بحر بن كعب , وقطيفته قيس بن الأشعث ونعليه الأسود الأودى , وسيفه رجل من بنى نهشل بن دارم , ومال الناس على الوَرْس والحُلل والإبل وانتهبوها , ومال الناس على نساء الحسين وثَقَله ومتاعه , فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيُذهب به منها .
أراد شمر أن يقتل الصبى علىّ بن الحسين وهو منبسط على فراشه وهو مريض , ومنعه حميد بن مسلم حتى جاء عمر بن سعد فقال : ألا لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد , ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض , ومن أخذ من متاعهم شيئاً فليرده عليهم , فما رد أحد شيئاً .
وما نجا سوى عقبة بن سمعان مولى الرباب بنت امرئ القيس الكلبية وهى أم سكينة بنت الحسين .
و قتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون رجلاً سوى الجرحى وأتى خولى بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدى رأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد , وأمر عمر حميد بن بكير الأحمرى بحمل بنات الحسين وأخواته وأزواجه ومن معهم من الصبيان وعلىّ بن الحسين المريض إلى الكوفة .
قالت زينب أخت الحسين حين مرت بأخيها صريعاً : يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء , هذا الحسين بالعراء , مرمل بالدماء , مقطّع الأعضاء , يا محمداه وبناتك سبايا , وذريتك مقتّلة , تسفى عليها الصبا . فأبكت كل عدو و صديق .
وقطف رءوس الباقين , فسرح باثنين وسبعين رأساً شمر بن ذى الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس إلى عبيد الله بن زياد .
نصب عبيد الله رأس الحسين بالكوفة فجعل يدار به ثم سرّح الرءوس جميعاً مع زحر بن قيس إلى يزيد بن معاوية فى دمشق.

وروى البخارى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَام فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا فَقَالَ أَنَسٌ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَخْضُوبًا بِالْوَسْمَةِ .
جعل عبيد الله بن زياد ينكت بالقضيب الحديد على فيه فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك فوالله لربما رأيت فا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فيه يلثمه .
أمر عبيد الله بقتل الغلام المريض علىّ بن الحسين , فطرحت زينب نفسها عليه وقالت : والله لا يقتل حتى تقتلونى , فرقّ لها فتركه وكفّ عنها .
عندما أخبر يزيد بالأمر دمعت عيناه , وقال : قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين , لعن الله بن سمية , أما والله لو أنّى صاحبه لعفوت عنه , فرحم الله الحسين .
وأرسل عبيد الله النساء والصبية إلى يزيد مع محفّز بن ثعلبة العائذى وشمر بن ذى الجوشن , فلما انتهوا إلى باب يزيد قال محفّز : هذا محفّز بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة . قال يزيد : ما ولدتْ أم محفّز شرٌّ وألأم .
وعندما دخلن دار يزيد لم تبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهنّ تبكى وتنوح على الحسين .
وكان يزيد لا يتغدّى ولا يتعشّى إلا دعا عليّاً بن الحسين إليه .
وأدخلهم يزيد على عياله فجهزهم وحملهم إلى المدينة .

أثر مقتل الحسين على التشيع
وفى هذه الفترة أخذ التشيع صبغة جديدة بدخول العناصر الأخرى فى الإسلام من يهودية ونصرانية ومجوسية .
ونجح بعض من هؤلاء فى أن يصبغون بعض فرق التشيع بصبغة دينهم , واقتضت عدة ظروف أن يكون أكبر عنصر فى هذه الفرق هو العنصر الفارسى مما ساهم فى أن يكون له أثر كبير فى التشيع
واتخذ التشيع معنى محدداً انحصر فى إمامة علىّ بن أبى طالب وأبنائه وأحفاده من بعده , وبهذا تشيع كل من يؤمن بأحقية علىّ وذريته للخلافة , وتشيع أيضاً كل من كره الحكم الأموى , وكان للعداء القبلى أثره فى التشيع ضدّ من تعصب للأمويين , وتشيع أيضاً الموالى ضد الحكم الأموى المصبوغ بالأرستقراطية العربية .
فتشيع جزء من الفرس لأنهم مرنوا أيام الحكم الفارسى على تعظيم البيت المالك وتقديسه , وأنّ دم الملوك ليس من جنس دم الشعب , فلما دخلوا فى الإسلام نظروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة كسروية , ونظروا إلى أهل بيت الرسول نظرتهم إلى البيت المالك , فإذا مات النبى صلى الله عليه وسلم فأحق الناس بالخلافة أهل بيته.
لقد أجمعت الفرس على التشيع بعد زواج الحسين من شهربانو (سلافة) ابنة يزدجرد بعد أن وقعت أسيرة فى أيدى المسلمين وأنجبت عليّاً زين العابدين بن الحسين , فاعتبر الفرس أنفسهم أنسباء الحسين وأخوال علىّ زين العابدين, وتعصبوا للتشيع الذى يعتبر حتى الآن تشيع سياسة وتشيع عصبية لا عقيدة دينية.
ولما انفضت الشيعة عن الحسين , فى الكوفة واستشهد , دبت الغيرة والحقد فى قلوب المسلمين الذين رأوا فى ذلك امتهاناً لبيت الرسول الكريم فاتسع نطاق التشيع لآل البيت .
فالتاريخ لم يعرف هزيمة كان لها من الأثر لصالح المهزومين كما كان لدم الحسين , فلقد أثار مقتله ثورة ابن الزبير , وتكوين حزب التوابين الذين لم يكن لهم عقيدة دينية ذات طابع مميز عن جمهور المسلمين حيث خرجوا إلى قبر الحسين يعترفون بخطئهم ويبكون ثم توجهوا لقتال الأمويين فى عين الوردة قرب الرقة .
لقد رأوا أنهم غرروا بالحسين حينما استدعوه ثم تخلّوا عنه , فكان هدفهم الثأر له فكان طابعهم عاطفياً نابع من الندم والمسئولية عن قتل الحسين .
لقد تشيع البعض حباً وتكريماً وتعلقاً بأهل البيت لأنهم أهل بيت النبى وعترته وأحبابه وخاصة من رأى ما حلّ بهم من تعذيب وتشريد وقتل, فتعلق حباً وأسى وشفقة ورحمة , فهذه المحن جعلت كثير من المسلمين يتشيعون لهم ويتعصبون .
فلما قتل الحسين 61هـ حارت فرقة من أصحابه وقالوا : قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين , فإن كان ما فعله الحسن من موادعة حقاً واجباً , فما فعله الحسين من محاربة باطل غير واجب , وإن كان ما فعله الحسين حقاً واجباً فقعود الحسن باطل , فشكوا لذلك فى إمامتهما ورجعوا فدخلوا فى مقالة العوام .
لقد استطاع الحسين أن ينجح فيما لم ينجح فيه أبوه أو أخوه من قبل , إذ نجح فى إدانة أعداء أبيه من أهل الشام , وخاذليه من أهل العراق على السواء , فأبوه قتل بسيف خارجى , وأخوه سلّم الأمر لمعاوية , وقتل الحسين بعد أن استدعاه أهل العراق , فتركوه فى العراء تحت رحمة أعدائه , فتبلور الشعور بالإثم على نحو لم يستشعروه من قبل
فى عهد علىّ والحسن , و اشتعل فى نفوسهم حزن مستعر لم يخمد لهيبه إلى اليوم , ولم تسكن عبرتهم , ولعلها لن تسكن .
ولم تكن حركة التوابين هى وحدها التى عبّرت عن الندم ,إذ لم تعرف فى تاريخ الفرق قوة للإثم قد بلغت فى عقيدة ما بلغته فى التشيع .
وهم يجدون فى هذا العذاب كفّارة وتوبة وهم مقيمون على الحزن يستعذبون طعمه ويرهقون أنفسهم بالإصرار على إحياء ذكرى خطيئة الذين ذهبوا بإثم سفك دم الحسين .
لقد استطاع الحسين أن يجعل الذين لم يأبهوا لمقتل أبيه ولم يعبأوا للذل الذى تركهم أخوه يذوقونه تحت رحمة الأمويين , استطاع وإن كلّفه ذلك حياته أن يجعل الذين خانوا أباه وغدروا بأخيه فى حزن مقيم وعبرة لا تسكن, وندب لا يذهب مهما طالت السنون وانقضت القرون, كما استطاع أن يركز جملة من السخط والكراهية على الأمويين بعد أن كادت تصبغ على خلافتهم صفة شرعية بعد عام الجماعة .
لقد أحاط الشيعة استشهاد الحسين بهالة من القداسة لم يصل إليها شهيد فى الإسلام , وصار البكاء بعد إشهار السيف هو الرابطة بين الشيعة وآمالهم فى إعادة الحق إلى نصابه .
و يختلف موقف الحسن من معاوية عن موقف الحسين من يزيد , فمعاوية يختلف عن يزيد من حيث النشأة والصحبة والتأدّب , حتى من حيث الأعوان , فأعوان معاوية ساسة وذوى مشورة , وأعوان يزيد جلادين .
فالحسين كان عازماً على عدم مبايعة يزيد , فلم يكن حين خرج إلى الكوفة يطلب الدنيا أو الجاة أو ساعيا وراء الخلافة لذاتها , بل كان يريد أن يقيم أحكام الله التى أُريد الخروج عليها بشكل حتمى , فكان بذلك مستجيباً لسلطان الإيمان .
أقام عليهم الحسين الحجة حين عرض عليهم الاختيارات الثلاثة , وترك لهم كل الأعذار التى تبرر إعفاء أنفسهم من سفك دمه .
وأقام عليهم الحجة مرة أخرى حين لم يبدأهم بالقتال , ولكنهم بدءوه بعد أن حرموه الماء , وأسرفوا فى التنكيل بالمقتولين , ولم يراعوا حرمة أهل البيت .
لقد زلزل مقتل الحسين أركان دولة بنى أميّة , فأتى عليها من القواعد .
وفى محاولة لفهم البواعث النفسية لحركة الحسين يجب أن نعى أنّ بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة , ولا بالبيعة التى يضمن لها الدوام.
والمسألة الدينية فى نفس الحسين مسألة هامة , فالحسين طلب خلافة الراشدين , وكان الصراع بين الحسين ويزيد أول تجربة من قبيلها بعد عهد النبوة وعهد الخلفاء الأولين , قد بذل فيها الحسين روحه , وطبيعة الشهادة موكلة ببذل الحياة لما هو أدوم من الحياة فهو أبو الشهداء .

فخروج الحسين كان أمراً يتصل بالعقيدة أكثر مما يتصل بالسياسة والحرب , وقد أراد الحسين أن يصلح كثيراً من مسائل العقيدة بعد أن اختلّت الموازين أثناء خلافة معاوية , فمعاوية كان يدعم ملكه بالقوة بالإضافة إلى أيديولوجية تمس العقيدة فى الصميم , فلقد كان يعلن فى الناس أنّ الخلافة بينه وبين علىّ قد احتكم فيها إلى الله , وقضى الله له على علىّ , وكذلك حين طلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز وأعلن أنّ اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من الله , وهكذا كاد يستقر فى أذهان المسلمين أنّ كل ما يأمر به الخليفة قضاء من الله قد قُدر علىالعباد.
وأبداً لم يكن فشل الحسين عسكريّاً بعيداً عن ذهنه , وقد كان يقدر الموت فى خروجه أكثر مما يقدر النصر الذى عز على أبيه مع شجاعته , وعلى أخيه مع كثرة أتباعه , وظهر هذا فى نصح الناس له فى مقبل الخروج .
كان اصطحاب الحسين لأهله ليشهد الناس على ما يقترفه أعداؤه , بما لا يبرره دين ولا وازع .
وهى عادة عربية فى البعوث التى يتصدى لها المرء متعمداً القتال دون غيره , فضلاً عن البعوث التى تشتبك فى القتال , وقد تنتهى بسلام .
وهى عادة عربية عريقة , يقصدون بها الإشهاد على العزم وصدق حجة فى يديه , ويجمع على خصومة أقوى حجة تنقلب عليهم إذا غلبوه وأخفق فى مسعاه , فتنقلب الآية فى حالة الخذلان فينال المنتصر من الغضاء والنقمة على قدر انتصاره الذى يوشك أن ينقلب عليه .
لقد خشى تعرضهم للإهانة وهو بعيد عنهم .

مقتل الحسين على هذه الصورة الشنيعة كان له أسوأ الأثر فى نفوس المسلمين فقد ازداد الشعور العدائى عند أهل العراق وفارس ضد بنى أمية كما نتج عن مأساة كربلاء تطور التشيع إذ كان قبل مصرع الحسين مجرد رأى سياسى فأصبح عقيدة راسخة فى نفوس الشيعة وظهرت طائفة التوابين .

التوابون
ظهرت طائفة من الشيعة أحسوا بالندم لتركهم الحسين يواجه الموقف وحده , ورأوا أنّ خير وسيلة للتخلص من الشعور بالذنب هى قتل من قتل الحسين , وتولى أمر هؤلاء سليمان بن صرد الخزاعى ومعه المسيب بن نخبة الفزارى وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدى وعبد الله بن دالى التميمى ورفاعة بن شداد البجلى , وسموا أنفسهم بالتوابين , وأخذوا يعملون فى الخفاء لتحقيق أهدافهم , فلما توفى يزيد 64هـ أظهروا دعوتهم , وكان لهم شأن مع خلفاء يزيد .
كان مروان بن الحكم قد تولى الخلافة بعد يزيد فأرسل عبيد الله بن زياد إلى أمر الكوفة , ولما توفى مروان وتولى عبد الملك بن مروان الذى أقر عبيد الله بن زياد على ولايته .
ففى أول عهد عبد الملك بن مروان (65 – 86 هـ) استقر رأيهم على الخروج من الكوفة لمحاربة عبيد الله بن زياد الذى رحل إلى الشام ليستعد للقضاء على نفوذ ابن الزبير فى الكوفة , فتجمعوا فى أول ربيع ثان 65هـ وعددهم أربعة آلاف فى النخيلة قرب الكوفة , وتوجهوا إلى كربلاء حيث قضوا يوماً وليلة عند قبر الحسين, واعترفوا بخطيئتهم , وأخذوا العهود على أنفسهم وهم يبكون ثم ساروا إلى عين الوردة وعسكروا فيها , فكان الحال بالنسبة لأهل الكوفة أنهم أرادوا أن ينتقموا من أنفسهم لأنهم خذلوا مسلم ولم يدافعوا عن الحسين .
وفى يوم 22 من جمادى الأول التقى جيش التوابين مع جيش الشام فى عين الوردة , وهزموا هزيمة شنيعة وقتل قائدهم سليمان بن صرد , وكان المختار في الجيش، فقال : أبشروا إن سليمان قضى ما عليه، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إني أنا الأمير المأمون، وقاتل الجبارين، فأعدوا واستعدوا .
وتولى المختار بن أبى عبيد الثقفى زعامة التوابين , وهو شخصية غامضة , كان قد انضمّ لعلىّ بن أبى طالب , ثم رفض مبايعة الحسن ثم بايع مسلم بن عقيل فى الكوفة للحسين , وكان من الذين خذلوه , ثم سار إلى الحجاز يبايع عبد الله بن الزبير , وحارب بجانبه أثناء حصار مكة الأول على يد الحصين بن نمير السكونى 64هـ ثم ذهب إلى الكوفة يستميل شيعة بنى هاشم بها , وادّعى أنه يدعو لمحمد بن الحنفية من بعد الحسين , وأنّه أمينه ووزيره , وقد قوى مركز المختار عقب انضمام إبراهيم بن الأشتر النخعى إلى جانبه بالإضافة إلى فلول التوابين العائدين من عين الوردة .
وكان أكثر من استجاب له همدان، وقوم كثير من أبناء العجم الذين كانوا بالكوفة - وكانوا يسمون الحمراء - وكان منهم بالكوفة زهاء عشرين ألف رجل .
وتوافى إلى المختار نحو أربعة آلاف من الشيعة قاتل بهم من بعث ابن مطيع والى الكوفة من شبث بن ربعى وراشد بن إياس, فهزمهم ومعه إبراهيم بن الأشتر وندب له ابن مطيع الناس , وبعث له عمر بن الحجاج والزبيدى وشمر بن ذى الجوشن ونوفل بن مساحق وهزمهم ابن الأشتر والمختار ودخل القصر وخطب فى الناس ودعاهم إلى بيعة ابن الحنفية فبايعه أشراف الكوفة .
وانهزم أهل الشام بقيادة عبدالله بن حملة الخثعمى , فرجع أهل الشام فأرجف الناس بالمختار .
وخرج أشراف الكوفة وشهروا السلاح , وقالوا للمختار : اعتزلنا فإنّ ابن الحنفية لم يبعثك . قال : نبعث إليه الرسل منى ومنكم .
وكفّ أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر, فلما وصل قاتلهم وأسر منهم خمسمائة و قتل كل من شهد قتل الحسين منهم فكانوا نصفهم , وأطلق الباقين .
ونادى المختار الأمان إلا من شهد فى دماء أهل البيت , فقتل عمر بن الحجاج الزبيدى وشمر بن ذى الجوشن بعد فرارهما , وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلاً , وكان سنة ست وستين وذلّ المختار على قتلة الحسين وقتلهم وحرقهم .
وقام بعزل عبد الله بن مطيع والى الكوفة , وجاء عبيد الله بن زياد من الموصل والتقى الجيشان عند نهر حازر الذى يصب فى دجلة فى صفر 67هـ .
وهَزم المختار عبيد الله بن زياد ومثل بجثته وبجثه الحصين بن نمير السكونى وغيرهم من أشراف الشام , وبالغ فى النقمة فقتل وأحرق ومزق وهدم الدور وتعقب الهاربين , وهكذا انتقم لمقتل الحسين .
ولم ينج من الانتقام واحد ممن أحصيت عليهم ضربة أو كلمة أو مدوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء .
قيل الذى بعث المختار على قتلة الحسين قول ابن الحنفية : يزعم المختار أنّ لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسى يحدثونه .
فلما سمع المختار ذلك تتبعهم وقتلهم .
وكتب المختار إلى ابن الحنفية يشكوا ابن الزبير ويوهمه أنه بعث الجيش فى طاعته ويستأذن فى بعث الجيوش إلى المدينة فكتب إليه ابن الحنفية بطاعة الله وتجنب دماء المسلمين .
ثم دعا ابن الزبير محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وشيعته إلى البيعة فامتنع فتركهم , فلما استولى المختار على الكوفة وأظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به ,
فاعتزم عليهم فى البيعة وتوعدهم , وكتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فندب الناس (ثلاثمائة ) ودخلوا المسجد الحرام وبأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف فى الحرم وينادون بثأر الحسين ورفض ابن الحنفية قتال ابن الزبير وخرج إلى شِعب علىّ .
ولم يشأ المختار أن يجاهر بعدائه لابن الزبير , وكان المختار قد وادع ابن الزبير فى الكوفة ليتفرغ لأهل الشام , ولكنه اضطر إلى ذلك الجهر بعد اعتقال ابنُ الزبير محمد بن الحنفية الذى يدعو المختار إليه فسيّر المختار قوة من عنده إلى مكة حيث استطاع إطلاق سراحه .
وكان لهذا العمل أثر سيئ عند ابن الزبير حيث أيقن أنّ المختار يخادعه فأمر أخاه مصعب بن الزبير والى البصرة بالقضاء على المختار , واستطاع مصعب هزيمته وقتله فى الكوفة فى رمضان 67هـ فى الرقيم .
فعبد الله بن الزبير لما نازع عبد الملك بن مروان فى الملك واستولى على بعض الأصقاع سار فى شيعة العلويين سيرة الأمويين حيث حبس محمد بن الحنفية و قتل المختار الثقفى وكثيراً من أتباعه.
ولما قتل المختار واستوثق أمر ابن الزبير بعث إليهم فى البيعة فكتب ابن الحنفية إلى عبد الملك , وخرج إليه فى الشام فلما وصل مدين وصله خبر مهلك عمر بن سعد فندم وأقام بأيلة ثم رجع إلى مكة ونزل شِعب أبى طالب فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف حتى حاصر الحجاجُ ابنَ الزبير,ولما قتل ابن الزبير بايع ابن الحنفية لعبد الملك ثم قدم الشام.
سار جيش عبد الملك نحو الكوفة بعد أن بايع بعض قادة مصعب بن الزبير حيث استطاع عبد الملك بن مروان مع مرور الوقت أن يغرى كبار قواد مصعب بولاية أصفهان , فانسحبوا ماعدا إبراهيم بن الأشتر, وخذل أهل العراق مصعباً حتى بقى فى سبعة أنفس, فقتل إبراهيم بن الأشتر ومصعب بن الزبير سنة 71 هـ , و دعا عبدُ الملك جندَ العراق إلى البيعة فبايعوه .
وبعث منها الحجاج بن يوسف الثقفى لقتال ابن الزبير 72هـ فى مكة , وانضم له بعض أتباع ابن الزبير وحاصر مكة ستة أشهر وضرب الكعبة بالمنجنيق, و لم يتعرض للمدينة و نزل الطائف .
وبعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليه منهم عشرة آلاف , فانكشف هو وأصحابه , ورفض الفرار, وقاتلهم ابن الزبير حتى قتل .
وبايع أهل مكة الحجاج وسار إلى المدينة وأساء إلى أهلها وقال : أنتم قتلة عثمان . وختم أيدى جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة .
وهدم الحجاج بناء الكعبة الذى بناه ابن الزبير وأخرج الحجر منه وأعاده إلى البناء الذى أقره النبى صلى الله عليه وسلم . وفعل الحجاج فى الشيعة الأفاعيل حتى خشى الناس أن يسمو أبنائهم أسماء أهل البيت .

ويمكن التواصل على البريد الإلكترونى alraia11@yahoo.com
___________________
أهم المراجع التى يمكن الرجوع إليها فى الموضوع :
1- د. عبد المنعم النمر الشيعة المهدى الدروز
2- محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري لسان العرب
3- حيدر حب الله مجلة المنهاج العدد 37
4- الإمام محمد أبو زهرة تاريخ المذاهب الإسلامية
5 - شرح نهج البلاغة
6- موسى الموسوى الشيعة والتصحصح
7- أحمد أمين فجر الإسلام
8- الحسن النوبختى وسعد القمى فرق الشيعة
9- د. عبد المنعم الحفنى موسوعة الفرق الإسلامية
10- د. طه حسين الفتنة الكبرى علىّ وبنوه
11- د. مصطفى الشكعة إسلام بلا مذاهب
12- د. نادية حسنى صقر السبئية
13- عبد القاهر البغدادى الفرق بين الفرق
14- هادى العلوى وعلاء اللامى مجلة العصور الجديدة العدد 16
15- ابن كثير الدمشقى البداية والنهاية
16- ابن جريرالطبرى تاريخ الرسل والملوك
17- تاريخ ابن خلدون
18- ابن تغرى بردى النجوم الزاهرة
19- عثمان الخميس حقبة من التاريخ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق